تذوق لا حكم

في فيديو انتشر مؤخرا في الصفحات السودانية من وسائل التواصل الاجتماعي، ثمة قارئ عربي مخلص ومتذوق للأدب عامة، يتحدث عن اختياراته الخاصة من الأعمال التي قرأها في الأدب السوداني، ويرشحها للقراءة لآخرين من متابعيه.
وكان من بين هذه الأعمال المرشحة، نصوص للطيب صالح وحامد الناظر وآخرين.
القارئ لم يقل أبدا إن هذه خلاصة الأدب السوداني ولا شيء قبلها أو بعدها. ولم يتعمد بالتأكيد تجاهل كتاب كبار يعتبرهم البعض أيقونات من المفترض معرفتها وقراءتها وترشيح أعمالها للقراءة، وما فعله إجراء عادي وروتيني يحدث دائما. ونحن نتابع في موقع «غود ريدز» المعروف، وغيره من صفحات القراءة التي تنشئها مجموعات مهتمة، آلاف الناس الذين يعرفون بعض من كتبوا ولا يعرفون الكل، أو قرأوا للبعض ولم يقرأًوا للبعض الآخر وأيضا ربما أعجبتهم كتابة أحد ولم تعجبهم كتابة آخرين قد يكونون أعلى مستوى، وهكذا.
وكنت ذكرت مرة أنني لم أسمع بكتاب حائزين على جوائز عالمية إلا متأخرا جدا، وحتى الآن لم أقرأ لكتاب حائزين على جائزة نوبل إلا بالقدر الذي يجعلني ألمّ بأساليبهم. وهذا هو المطلوب في زمن لا تستطيع فيه القراءة لكل الناس، كما أنك ككاتب لا تستطيع إرضاء كل الناس، ولا جعل كل الناس يعرفونك حتى.
مثلا لا تعجبني كتابة نجوجي واثيونغو، بالرغم من كونه أسطورة كتابية أفريقية، وأعماله غنية بالميثولوجيا والتاريخ والخرافات، بينما يظل تشيتيا تشيلي معلما لي وواحدا تمنيت لو عرفته إنسانيا كما عرفته إبداعيًاً. وحين انتشرت رواية «الخيميائي» للبرازيلي باولو كويلهو وقدمت للدنيا كاتبا سيصنع أسطورته الكبيرة بعد ذلك، سعيت وراءها منساقا خلف التقييمات المرتفعة، والمراجعات التي تمجدها كل تمجيد. قرأتها باندفاع شديد، ولم أعثر على الطعم الذي كنت أبحث عنه، الطعم الذي تذوقه العالم وجعل بعده الكاتب أسطورة، قرأت بعدها «الجبل الأصفر» و«فيرونيكا تقرر أن تموت» ثم توقفت.
كان كويلهو كاتبا رائجا بلا شك، لكن لم يتوافق معي.
ولعلي أقول لأول مرة إنني أكملت «ظل الريح» لكارل رويس زافون بشيء من المتعة، لكن حين قرأت «لعبة الملك» التي كان بطلها كاتبا سيكتب ديانة جديدة، وباقي الأعمال، لم تكن هناك أي متعة، مجرد قراءة فقط اكتملت بصعوبة في الغالب.
حتى هاروكي موراكامي نفسه هناك من يعتبره هرما صانعا للعجائب، ومن يعتبره مجرد كاتب عادي مملوء بثقافة اليابان، ويدلقها في صفحات كثيرة جدا، أكثر من اللازم. ولا مشكلة أبدا، فالكاتب الذي يقدر نفسه ويقدر إبداعه، يستمر غير مبال بأي ريح قد تهب هنا وهناك ضده، أو رأي محبط يفسد عليه التأمل.
أعود لمسألة القارئ المتحمس لبعض الأعمال السودانية وأقول للذين اعتبروا رأيه حكما جائرا، إن المسألة مجرد تذوق لا أقل ولا أكثر كما أوضحت قبلا، لا يمكن أن تلزم متذوقا أن يتذوق بلسان قراءتك أنت كما لا تستطيع إطعامه طعاما تحبه من دون أن يحبه هو.
لذلك عليك أن تأخذ بترشيحاته أو لا تأخذ بها، فهذا هو الأهم.
في السياق نفسه، تطل علينا بين حين وآخر مواقع تقدم أفضل مئة رواية عالمية، أو أفضل مئة رواية عربية، ويظل الناس مرتبكين من هذا الحكم الذي يأتي لهم بأعمال كلاسيكية في الغالب، متجاهلا كما هائلا من التجريب واللغة الجديدة في الرواية. وأحيانا يأتي بأعمال تجريبية، متجاهلا إرثا كلاسيكيا عظيما، وفي كلا الحالتين، لا ينبغي أن يعتبر ذلك حكما، ولا ينبغي الاهتداء به إن لم يلائم تذوقنا.
ودائما أردد أن نقل ما تكتبه المواقع غير المنهجية عن رواية ما لكاتب، وصراخه بأن روايته من ضمن أفضل مئة رواية، ليس انتصارا أبدا، لأن من وضعها هناك ووضع غيرها كان يستخدم أدوات رأيه الشخصي، لا أدوات منهجية مدروسة. أكثر من ذلك، قد تكون ثمة خدع يقوم بها البعض من أجل الترويج لمؤلفاتهم، وقد صادفتني مثل تلك الألاعيب، ولم أرض الانغماس فيها. لأنك في عمر معين، وبعد تجربة كبيرة، لن تقدم على ما يضر بهذه التجربة.
أتحدث قليلا عن فيديوهات القراء التي نراها أحيانا، وتلك القنوات التي تبث عبر يوتيوب، وأقول بكل جدية إنها أكثر تأثيرا من المدونات الجامعية، والدراسات النقدية. وهؤلاء الذين يجهدون أنفسهم في القراءة، ويشاركوننا بما قرأوه وأعجبهم، يستحقون الثناء. نحن نقرأ كثيرا ويعجبنا الكثير، لكن قد نكون من البخل أو الكسل أو الانشغال، بحيث لا نشرك غيرنا في قراءاتنا.
لذلك أكرر تقديري لصاحب فيديو الأدب السوداني، وما أثير من لغط حوله، قطعا أمر جيد.
ربما لم تكن تعرف كاتبا مجيدا، وصاحب أسلوب مميز، مثل عمر فضل الله.
والآن عرفته.
والقارئ الحق سيبحث عن كتابات عمر ويغوص في عوالمه الأخاذة.
*كاتب من السودان
اقتباس: الكاتب الذي يقدر إبداعه، يستمر غير مبال بأي ريح قد تهب هنا وهناك ضده، أو رأي محبط يفسد عليه التأمل

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الدكتور جمال البدري:

    وهنا ياسيدي الدكتور: أستأذن أنْ أسألك منتظرًا منك الاجابة بصراحة: كم تعطي لكتاباتك الرّوائيّة درجة من (100%)؟
    أي ضمن الكتّاب الروائيين العرب المعاصرين.أعلم أنه سؤال فيه شيء من الاحراج ربّما…لكنما أرى في الجواب معرفة الذات للذات بصيرة؛ وحضرتك طبيب؛ ترى في الفحص بالناظور ما لا يراه صاحبه المنظور…فتقرر له العلاج والدواء. وأشكرك على مثابرتك وسعيك كالنحلة تجمع من الرحيق شرابًا فيه كتابة شفاء؛ وهوي ألذّ من مرّ الدواء.أتمنى أنْ نظفر بالتقييم والنقد الذاتيّ؛ فهو أصعب أنواع التقييم للمبدع الرّوائيّ…مع المحبّة والمودّة قبل قراءة الجوابي.

  2. يقول الدكتور جمال البدري:

    وهنا ياسيدي الدكتور: أستأذن أنْ أسألك منتظرًا منك الاجابة بصراحة: كم تعطي لكتاباتك الرّوائيّة درجة من (100%)؟ أي ضمن الكتّاب الروائيين العرب المعاصرين.أعلم أنه سؤال فيه شيء من الاحراج ربّما…لكنما أرى في الجواب معرفة الذات للذات بصيرة؛ وحضرتك طبيب؛ ترى في الفحص بالناظور ما لا يراه صاحبه المنظور…فتقرر له العلاج والدواء. وأشكرك على مثابرتك وسعيك كالنحلة تجمع من الرحيق شرابًا فيه كتابة شفاء؛ وهو ألذّ من مرّ الدواء.أتمنى أنْ نظفر بالتقييم والنقد الذاتيّ؛ فهو أصعب أنواع التقييم للمبدع الرّوائيّ…مع المحبّة والمودّة قبل قراءة الجوابي.

  3. يقول لخضر الجزائري:

    كلام في الصميم.. الأذواق والألوان لا مشاحة فيها -كما يقال-.. أمير تاج السر كاتب للرواية متميز جدا.. من جهتي قرأت له “صائد اليرقات” وقد أعجبتني وأدخلتني إلى عوالمه الروائية، وإلى العلاقات الاجتماعية في السودان.. أسلوب رائق وسرد سلس وحوارات واقعية وإيحاءات لا عد لها.. تقترب مما يطلق عليه “السهل الممتنع” الماتع..

  4. يقول S.S.Abdullah:

    الأم تحميك من السقوط…
    الأب يعلمك القيام بعد السقوط .. ( فيرهقك)

    الأم تعلمك كيف تمشي على رجليك…
    الأب يعلمك كيف تسير في دروب الحياة .. (بإصرار)

    الأم تعكس الكمال والجمال…
    الأب يعكس الواقع والجِد ..(والخيال أجمل )

    حب الأم تعرفه منذ الولادة…
    حب الأب تعرفه عندما تصبح أباً .. ( فصبراً جميلا )

    فالأم ……لا تقدّر بثمن
    والأب …..لن يكرره الزمن

    بالإضافة إلى ما ذكرته إلى د علي الفؤادي أو م حامد الحمداني في (المكالمات) بعد خلاصة مكالمة (د رحيم العتابي) في البصمة الصوتية لهذا اليوم، أي السؤال إذن:

    هل المستقبل، إلى توليد (الكهرباء الأرخص)، كما هو حال مُنتَج (المصري د مكرم حمودة) أم إلى تخزين (الكهرباء الأقصى) في أي بطارية، كما هو حال مُنتَج (الأردني د عوض منصور)

    https://al3omk.com/939883.html

    لأن في المملكة المغربية👆، تم توقيع أكبر إتفاق، لإنشاء أكبر مصنع، لإنتاج أكبر عدد من (البطاريات)،

    لتجهيز مصانع أوروبا، لتقليل (تكاليف النقل)، لو تم (الإنتاج) في (الصين) أو في (الهند)، أليس كذلك أم لا؟!🤨😉
    🤑🙉🙈🙊📓📟🇺🇳✒️

  5. يقول سمير التونسي:

    على رأي أهم شاعرين في عالمنا العربي، الراحل محمود درويش والحاضر أدونيس،
    الرواية سواء كتابة أو قراءة أو دراسة مجرد ضياع وقت كان يمكن أن يكون ثمينا جدا
    وعبارة عن هدر طاقات كان يمكن تكون جد نفيسة لدى توظيفها في أجناس أخرى
    تحياتي

اشترك في قائمتنا البريدية