زهراء آقبيق ونزار قباني
حين كتبت «صابرة.. سيرة صحافية غمرها النسيان» التي نشرت في صحيفة «القدس العربي 22/1/2022، مزيحا من خلالها الستار عن الاسم المستعار للصحافية السورية شكورة العظم، التي روت حكايتها المهنية والشخصية تحت اسم «صابرة» في كتاب «عابرات» لحنان خير بك، لم أتوقع أن تلقى كلماتي ذلك الصدى السريع، خاصة أنني أمضيت شهورا في البحث عن الصحافية، التي لم أجد لاسمها أثرا في الإنترنت، كما لجأت إلى زملائها والمهتمين بجمع المجلات القديمة دون جدوى.
فاجأتني الفنانة التشكيلية العراقية أفانين كبة المقيمة في كندا، بعدما قرأت ندائي، لمن يمتلك أرشيفا يخص كاتبا أو مبدعا، أنها تحتفظ بمقابلة نادرة تعود لعام 1998 بين شكورة العظم وزهراء آقبيق، أو أم توفيق الزوجة الأولى للشاعر السوري نزار قباني. المرأة التي اختارت أن تبقى بعيدة عن الضوء وعدسات المصورين، فبقيت مجهولة ولم تواز شهرتها يوما زوجته الثانية بلقيس الراوي.
تحكي شكورة العظم عن معرفتها ولقائها بشاعر المرأة.. قائلة: معرفتي بالراحل الشاعر نزار قباني جيدة وقديمة، لكنها متباعدة، ومن خلال عملي في الصحافة اللبنانية أجريت معه مقابلة، بعد أن فازت قصيدة «أيظن» في مسابقة الأغنية العربية، التي أقيمت في بيروت، والتي لحنها محمد عبد الوهاب وغنتها نجاة الصغيرة، وأذكر أن نزار قال لي يومها، إنه كان يعتقد أن أشعاره ستكون فقط للتلاميذ وطلاب الجامعات أو «كافيار» و»سومون فوميه» للصالونات لا قصائد تعم الشوارع والحيطان والسبورات.
في دمشق كان لقاؤها الثاني مع القباني، في ستينيات القرن الماضي ويظهر هنا الجانب الجريء والمتطفل في الصحافية السورية، وهي تغوص في الخصوصيات وهو ما لا يحبه نزار. تقول: في منزل شقيقته هيفاء عجمي في ساحة النجمة، وبعد أن انتهت المقابلة الصحافية، وضعت أوراقي جانبا وتحدثت إليه كصديقة فقلت له: لطالما أنك ما زلت عازبا فلماذا لا ترد إليك زهراء وولديك توفيق وهدباء، وتعيد شمل العائلة من جديد؟ عندها شعرت بأن نزار لا يحب الخوض في موضوع كهذا فقال لي: لا أحب الكلام في هذا الموضوع فهو يثير أعصابي.
أرى أن شكورة ورغم معرفتها الأعمق بزهراء، إلا أنها كانت أقل جرأة، ولم تخض في التفاصيل الدقيقة للخلافات، واحترمت تقديس المرأة للخصوصية.. تقول: وجدتني أفتح نافذة على تلك الصباحات التي من قطرات نداها تكونت القصائد، في ظلال حب نزار الأول لزوجته زهراء التي لم أكن بعيدة من فرحها وحزنها، ولأن السيدة زهراء أم توفيق، آثرت منذ انفصالهما هي ونزار ألا تخوض في تفاصيل ما حدث، فقد وجدت صعوبة في بدء الحوار معها عن حديث الماضي والذكريات، فهي ما زالت تحتفظ لذاتها وبصدق، بصورة حية للرجل الذي كان حبها الأول والأخير.
تكشف الصحافية أنها حين طلبت صورا حديثة من أم توفيق تمنعت، وتفسر ذلك بأنها ربما لا تحب أن يرى الناس الا صورة زوجة نزار يوم كان جمال صباها ملهما لقصائده الأولى، وأشاركها في ذلك الرأي، وتعرّف بزهراء آقبيق قائلة: هي ابنة القاضي والنائب العام والنائب في المجلس أوائل الخمسينيات المرحوم محمد آقبيق، ومعرفتي بها تعود لصلة المرحوم والدها مع المرحوم والدي. والمرحومة والدتها إنعام آقبيق وهي، أي زهراء ربطتها علاقة صداقة حميمة مع شقيقتي الكبرى، التي كانت تحتفظ لها بألبوم صور الذكريات، وبصور كثيرة لها مع نزار وولديهما توفيق وهدباء، وبصور عائلية أخرى. والصور ما زالت لديّ أحفظها كذكرى غالية، وكذلك تحفظ زهراء صورا كثيرة في ألبومها لشقيقتي ولنا أيضا.
بين السطور يتسرب الحزن من قلم الصحافية الدمشقية، وهي تعترف بأن زهراء آخر من بقي لها في دمشق وكأنها تقول، إنها خذلت مرارا من غدر الأصدقاء والأقرباء وتبوح كاشفة: على الرغم من وفاة شقيقتي الكبرى بقيت صلتي بزهراء قوية ومتينة، فهي الشخص الوحيد الذي بقي لي من أصدقاء. تتابع شكورة سرد ذكريات حية عايشتها، وصورا لا تغادر ذاكرتها فقد كانت شاهدة على مراحل متعددة من فصول حياة أم توفيق، ويظهر ذلك جليا من خلال التفاصيل التي أوردتها.. تقول: كانت زهراء في مطلع صباها تتردد علينا، أذكرها في مريول المدرسة الأسود، وشعرها الغزير فاحم السواد، وبشرتها الشمعية النقية الملساء وعينيها العسليتين المائلتين إلى الخضرة. وقامتها الممشوقة وضحكتها البريئة وطبعها الهادئ الوديع. كانت تدرس مع شقيقتي، خاصة في أوقات الامتحانات، وكانت شقيقتي أيضا تذهب أحيانا لتدرس معها وهكذا كانتا لا تفترقان.
ربما أثار رحيل الشاعر نزار قباني شجون طليقته وهي تقلب الذكريات القديمة والأوجاع.. تقول: بكيته بقلبي بحزن عميق وتذكرت ابننا توفيق. وعما إذا كانت قد تمنت أن تكون قريبة منه في مرضه، تبوح بأنها لم تكن بعيدة عنه، فهو لم يغب عن البال ولو للحظة واحدة وختمت كلامها قائلة: لقد كان أول رجل في حياتي ويبقى الأخير.
وفجأة انقطعت عنا زياراتها وغابت عنا صورتها ولم نعد نراها. فقد تزوجت من قريبها الشاعر نزار قباني وسافرت معه. وكنت أسمع من هنا وهناك قصة حب نزار لها. فكانت الوحي الكبير لدواوينه الشعرية الأربعة «قالت لي سمراء» والذي كتب إهداءه بحرف «ز» و»طفولة نهد» و»أنت لي» و»سامبا». وبعد ست سنوات من انقطاعها عنا وبعد سنين من الاغتراب بحكم عمل نزار الدبلوماسي في السفارة السورية. عادت زهراء إلى منزل والديها مع ولديها «مطلقة» عادت لتعيش في الظل، حاملة معها خيبة الأمل والمرارة. عادت لتعمل مدرسة في مدرسة عبد القادر الحسيني. وباعدت بيننا الظروف، فلم أعد التقي بها إلا في المناسبات فهي كانت هنا في الشام وأنا كنت هناك في بيروت أعمل في الصحافة اللبنانية.
وعن تفاصيل الحوار الأول بعد ثلاثين عاما للزوجة، التي اختارت أن تبقى في الظل. تصف شكورة العظم ذلك اللقاء بالقصير والعميق قائلة: ذهبت الأسبوع الماضي لمنزلها في «الميسات» لأقدم التعازي بالشاعر الكبير نزار قباني. فأنا أعرف تماما أنه بقي حيا طريا في قلبها، لأنني لم التق مرة بها إلا وكان نزار القاسم المشترك في أحاديثي معها. تتحدث عنه كأنها تعيش معه، تنتظر عودته من عمله. وعلى الرغم من مسافة السنين التي باعدت بينها وبينه كنت ألمح ضيقها، كلما اقترن اسمه باسم امرأة في علاقة، أو قصة حب، أو مغامرة وكأنها ما زالت تعيش معه أو يعيش معها. جلست معها في زاوية الظل التي اختارتها دائما لتجلس فيها.
يبدو أن شكورة أرادت أن توثق التواريخ المهمة في حياة زهراء ونزار فسألتها بالتحديد عن تاريخ زواجها فتجيب: الخطبة والزواج كانا في عام 1946 الخطبة تمت في دمشق والزواج في القاهرة، حيث كان نزار يعمل في السفارة السورية، وأنجبت ابنتي هدباء عام 1947 وابني توفيق عام 1950 وفي عام 1952 كان الطلاق.
تتذكر الصحافية الدمشقية كيف طرقت زهراء رأسها بحياء تصفه بالطفولي عندما سألتها عن الطلاق لتقول بصراحتها المحببة حسب تعبيرها: «الغيرة» ما دفع الصحافية لسؤالها: طالما أنه كان بينكما هذا الحب الكبير فلماذا الغيرة؟ كان جوابها أن نزار شاب جميل ولطيف ودبلوماسي. ولهذا فقد كانت له «حظوة» كبيرة بين النساء، وأنا لم أستطع التحمل فكان الطلاق. وعن اللقاء الأول بينها وبين نزار تقول: إنه قريبي والدته فايزة آقبيق قريبة والدي، وبدأ إعجابه بي من خلال تردده وأهله علينا. السنوات الثلاث الأولى قضيناها بانسجام وتفاهم، هكذا أجابت زهراء، وما إذا كانت خلافاتها مع نزار كلها من أجل النساء تضيف: عندما جئنا إلى دمشق وأقمنا فيها زادت الخلافات، وتدخل الأهل زاد من حدتها، بدلا من تخفيفها. وكان الحل أبغض الحلال. وعن ولديها هدباء وتوفيق تسرد قائلة: هدباء وتوفيق عاشا بيني وبين أبيهما عندما يكون في دمشق أو بيروت، لكن عندما يكون في بلدان بعيدة بحكم عمله كدبلوماسي كانا يبقيان معي حيث كانا يتابعان تعليمهما، هدباء نالت شهادة سياسة واقتصاد من الجامعة الأمريكية في بيروت، وأثناء إقامتها في لندن حصلت على ماجستير في الأدب الحديث، وأحاديث الرسول عليه السلام. وابني توفيق توفي وهو في سنته الدراسية الثانية في كلية الطب جامعة عين شمس في القاهرة.
ربما أثار رحيل الشاعر نزار قباني شجون طليقته وهي تقلب الذكريات القديمة والأوجاع.. تقول: بكيته بقلبي بحزن عميق وتذكرت ابننا توفيق. وعما إذا كانت قد تمنت أن تكون قريبة منه في مرضه، تبوح بأنها لم تكن بعيدة عنه، فهو لم يغب عن البال ولو للحظة واحدة وختمت كلامها قائلة: لقد كان أول رجل في حياتي ويبقى الأخير.
في الختام.. حين أصبح هذا الحوار بين يدي شعرت وكأني عثرت على كنز ثمين، وأن محاولاتي أثمرت بإعادة الصحافية الدمشقية شكورة العظم ونتاجها إلى دائرة الضوء، وألا تبقى اسما مجهولا وأرشيفا تائها في عالم الصحافة، وسرحت في التفكير كيف أن زهراء وشكورة رغم اختلاف الشخصيتين، إلا أنهما تتشابهان فكل منهما بقيت طويلا في الظل واليوم عادتا معا إلى الواجهة.
كاتب من سلطنة عمان
في المقال السابق للاخ الصديق العزيز الاستاذ عمرو مجدح سجلت اعتقادي بان المقال سيكون نافذة تطل من خلالها شخصية الصحفية شكورة العظم على العالم من جديد .. وتحقق ظني حين أطلق الاستاذ عمرو مجدح نداء من أجل نشر ارشيف الاستاذة الصحافية شكورة العظم ، فأتت ردة فعل حضارية من قبل الاستاذة الفنانة التشكيلية أفانين كبة فهي كنز المعلومات ، وكما وصفتها الايقونة غادة السمان أفانين كبة فنانة تشكيلية ، ولكنها فنانة قراءة ومدمنة أبجدية …
جميل جدا تعارفنا مع اسلوب الصحافية شكورة العظم في الحوار والنقاش ، واستعادة الذكريات ، وقد لمست مدى اعتزاز ها ببالصداقة التي جمعتها مع الشاعر نزار قباني وزوجته السيدة زهراء أقبيق.. كذلك بساطة الاسلوب والتقديم .. ادركت بان رائحة الياسمين الشامي تفوح كلما نبشت أوراق الذكريات .
تحياتي
نجم الدراجي – بغداد
مبادرة رائعة بجهود الاستاذ عمرو مجدح الذي دوما يبحث عن لآلئ نادرة كان لهم دور ما في الثقافة العربية ، فخسارة كبرى ومن الظلم أن تبقى مقالات وكتابات الراحلة شكورة العظم في الظلام ، ففي هذا المقال الرائع لقد أُعيدت اليها الروح والخلود لذكراها .
سررت جدا في أن أكون قد ساهمت في هذا المقال الإنساني الذي أعاد الحياة والذكرى للشاعر الراحل نزار قباني وللإنسانة التي كانت ملهمته وحبه الأول وجزء من حياته وماضيه ولها تأريخ جميل معه لا يمكن أن يُهمل أبدا ً .
أفانين كبة – كندا
ولك جزيل ابشكر أخي عمرو وبالفعل هو كنز فتحته أمامنا عن الثقافة العربية. وكل االشكر طبعًا للأخت أفانيين كبة القارئة المدمنة. وبالمناسبة لاحظت من خلال ابنتي وبنات أخريات أن البنات أكثر حبًا للقراءة من الصبيان! وأخيرًا لابد أن أذكر أنني تأسفت لقصة الحب التي انتهت بهذه السرعة ولكن هذا القصة ليست استثناء! وماهو مؤسف أن المشكلة كانت مسألة سهلة المعالجة، الغيرة. هل بالفعل لايوجد حب حقيقي في الواقع!
عذرًا تصويب: جزيل الشكر.
تألق الشاعر نزاز قباني كان مع زوجته الثانية بلقيس الراوي.كنت حاضرا عند خطوبنتهما في الأعظمية.وكان الذي خطب بلقيس لنزار الرئيس احمد حسن البكر..لأن والدها رفض بالبداية نزار.فتدخل البكر واقنع ولي أمرها فوافق.