تبذل الحكومة الصينية جهودا دبلوماسية واسعة مع دول وسط آسيا منذ سقوط العاصمة الأفغانية كابول تحت حكم طالبان” كي تتمهل الاعتراف بنظام طالبان الجديد.
رغم تلقي الصين طمأنات عديدة من قادة طالبان بأن الحركة التي عرف عنها التطرف في الماضي، جاءت بنهج يستهدف لم شمل الأفغان والعيش في وطن يتسع للجميع إلا أن بكين فضلت السير كعادتها على مبدأ حكمة صينية موروثة” تحسس الحجر تحت أقدامك وأنت تنزل مياه النهر”. وتخشى الصين في ظل حالة الضبابة التي تحيط بأفغانستان، بعد الخروج الأمريكي الفوضوي، أن تتحول إلى ساحة قتال، حيث يراهن البعض على أن الهروب الأمريكي الذي خطط له من قبل، أجرى على عجل بهدف احداث فوضى سياسة وحرب بين الجيش الأفغاني ومقاتلي حركة طالبان، ليظل الوضع الأمني مشتعلا في بلد يشترك مع الصين في حدوده ويقع على مفارق طرق مبادرة” الحزام والطريق” التي يعتبرها الرئيس الصيني شي جينبينغ مشروعا قوميا سيؤدي إلى أن تصبح الصين هي القوة الأولي عالميا بحلول منتصف القرن الحالي.
مع ذلك فإن الصين التي رفضت غلق سفارتها خلال أيام الفوضى في العاصمة، مازالت تتحسس الأحجار في مياه أفغانستان الهادرة.
انهيار حكومة كابول
لم تكن مشاهد انهيار حكومة كابول برئاسة أشرف غني بعيدة عن عيون الصينيين، فقد علموا منذ أن بدأت المفاوضات السرية بين طالبان وإدارة الرئيس الأمريكي ترامب، في الدوحة، أنه سيكون لطالبان شأن في إدارة أفغانستان. وعندما تحولت تلك المفاوضات إلى العلن، سعت الصين عبر حليفتها الباكستان في تنظيم لقاءات مع قادة الحركة، عام 2019 تمت في باكستان بعيدا عن عيون الأمريكيين وأجهزة الإعلام. ولم تتوقف الاتصالات بين الطرفين، مما دفع المخابرات الأفغانية في الحكومة السابقة إلى القبض على عدد من الصينيين، واتهامهم في شباط-فبراير 2012 حقاني” المتشددة، من أجل تعقب المقاتلين اليوغور شمال شرق أفغانستان. ورغم تسبب تلك الحملة التي أعلنها مدير الأمن الوطني، بناء على معلومات استخبارية من الهند، في الإساءة للبعثة الدبلوماسية الصينية، إلا أنها لم تترك أي توتر في العلاقات بين البلدين بينما كشفت عن النقص الخطير لدى الصينيين في فهم المجريات اليومية في أفغانستان ، وحاجتهم الماسة إلى تكوين علاقات قوية مع حركة طالبان. ومع اقتراب الرحيل الأمريكي وفقا لخطط البيت الأبيض، استضافت الصين وفدا رفيعا يضم من قادة طالبان، بقياد الملا عبد الغني بارادار.
التقى الوفد مع وزير الخارجية الصيني وانغ يي، والممثل الصيني الخاص لشؤون أفغانستان. ولأهمية اللقاء عقد الوزير الصيني وهو عضو المكتب السياسي الحاكم، الذي يضم السبعة الكبار لقادة الدولة والحزب الشيوعي الصيني اجتماعا منفردا مع الملا بارادار، في مدينية تيانجين، المصيف الرسمي لقادة الحزب والدولة .
حصلت الصين خلال هذا الاجتماع المغلق من ثاني شخصية قيادية في طالبان، على تطمينات، أن الحركة لن تتعاون مع أي جماعات متطرفة مثل القاعدة أو الدولة الإسلامية ” داعش” وأنها لن تسمح باستخدام أراضي أفغانستان في مهاجمة أية دولة أخرى.
وتعهد الصينيون بدورهم بعدم التدخل في أفغانستان، وكررت رغبتها في ضم أفغانستان لمبادرة الحزام والطريق بما يسمح بتدفق الاستثمارات الصينية، وتعزيز الاستقرار والتنمية في بلد طحنته الحروب وجعلته الأفقر على مستوى العالم.
وجود فراغ سياسي
منحت اجتماعات الصين شرعية للحركة، ومع عدم خروج بعثتها الدبلوماسية من كابول، أصبح هناك أمل في أن تمنح الصين الحكومة الأفغانية المرتقبة اعترافا دوليا وغطاء دبلوماسيا لها في الأمم المتحدة. مع ذلك تتحرك الصين حول هذا الأمر ببطء شديد، لا سيما بعد أن أصرت الولايات المتحدة على وصف طالبان أنها “حركة إرهابية” وجمدت حسابات الدولة الأفغانية في بنك الاحتياط الأمريكي لحرمان حكومتها الوليدة من أية تحويلات مالية، تسير بها أمور الدولة ولو لحين. فالصين رغم كراهيتها في وجود فراغ سياسي للسلطة في دولة على حدودها، إلا أنها مازالت تحسس الأحجار، في نهر الدولة الجديدة، لأن هناك رؤية يرددها بعض الخبراء الصينيون والأجانب، أن حالة الفوضى المفاجئة التي تشهدها أفغانستان مقصودة من الجانب الأمريكي، لتشكل خنجرا في خاصرة جارتها الدولة الصينية التي تتوسع غربا مع إيران والباكستان و دول وسط آسيا بالاضافة إلى تعاونها الاستراتيجي مع روسيا، لإبعاد الوجود الأمريكي والغربي عن المنطقة خلال السنوات المقبلة. هذا التمهل يعكس أسباب اتصال وزير الخارجية الصيني وانغ يي بنظره الأمريكي يوم 16 آب-أغسطس 2021، الذي تناول الأمر في أفغانستان، في وقت تتصاعد فيه الخلافات السياسية بين البلدين، وما أعقبه من تصريحات للمتحدثة باسم الخارجية الصينية، هوا تشون بينغ، أن الصين تشجع حركة طالبان على اتباع سياسة دينية معتدلة وتأمل أن يتمكن النظام الأفغاني الجديد من الانفصال التام عن جميع القوى الإرهابية الدولية بما في ذلك حركة ” تركستان الشرقية الإسلامية”.
ويظهر هنا بيت القصيد، فرغم القنوات المفتوحة بين الصين وطالبان، وعرض مدى اظهار تسامحها الديني مع الشيعة و دعوتها الفرقاء والموظفين والمرأة إلى مواصلة دورهم في الدواوين الحكومية، والعفو السياسي للخصوم لم تحظ بثقة الصين والمجتمع الدولى.ويرجع سوء الفهم في توجهات الحركة للدور الذي مارسته من قبل عند رفضها تسليم زعيم القاعدة أسامة بن لادن للولايات المتحدة مع اتهامه بأنه وراء تفجير برجي التجارة في نيويورك. فالحركة رغم أنها تدين بالمذهب الحنفي الذي يتبعه المسلمون من أصل صيني وهم قومية الهوي ومعظم المسلمين في الدول المحيطة بالصين مثل روسيا وطاجيكستان وأوزبكستان بل مصر وغيرها من الدول العربية وثيقة الصلة بالصين الشيوعية، إلا أن الصين تخشى أن تتحول الحركة إلى عنصر داعم للحزب الإسلامي التركستاني وحركة تركستان الشرقية التي تشكلت من أبناء قومية اليوغور في إقليم تركستان الشرقية ” شينجينانغ”، لأنه يدين بنفس المذهب الحنفي وتنتشر به الجماعات الصوفية النقشبندية وثيقة الصلة بالعائلات الأفغانية. فرغم أن الحركة تنتمى لمذهب أقرب للطرق الصوفية معاد فكريا لميراث تنظيمي القاعدة وداعش إلا أن هذا لم يمنعها من محاربة الأمريكيين لرفضهم مبدأ تسليم أسامة بن لادن كرجل مسلم لمحاكمته عن طريق نظام آخر غير مسلم، وتحملوا نتائج حرب كارثية دفاعا عن مبادئهم الدينية، فكيف بهم إذا ما طالبت الصين بتسليم نحو 500من المسلمين اليوغور أعضاء حركة تركستان الشرقية التي تطالب بالانفصال عن الصين والذين يعتبرون بكين محتلة لأراضيهم بعد الحرب العالمية الثانية.
فالصين تفضل العمل مع حكومات علمانية مدنية، وإن كانت تدير علاقات قوية مع دول عربية وإسلامية كثيرة، فإنها تعلم أن تلك الحكومات لديها موروث، تفصل فيه الحكومات، دور الدولة عن الدين، وتتعامل ببراغماتية بعيدا عن المثل الدينية الصارمة، مثل التي تؤمن بها طالبان، ولذا تجد صعوبة في التسرع في التعامل مع نظام مازال يضع الدين اطارا عاما للحياة داخل أفغانستان أو خارجها. فطالبان مازالت تردد أن كل شيء مسموح طالما لا يتعارض ذلك مع الشريعة، وهذه المرجعية، تحتاج إلى وقت لوضع أسسها وتبيان حدودها ومآلاتها. فإن كانت طالبان تعتبر الصين كما يقول متحدثها الرسمي سهيل شاهين”صديقة أفغانستان” ويأمل أن تبدأ بكين في مفاوضات حول الاستثمار في مشروعات إعادة الإعمار، في أقرب فرصة، فإن الصين المتعطشة إلى الاستفادة من ثروات أفغانستان الهائلة، وضمها لمشروع الحزام والطريق الذي أفاد جيرانها الباكستان وإيران، ويكاد يصل المحيط الهادئ بالخليج العربي، فإنها لن تتسرع بهذه الخطوة على المدى القريب. فالصين تفتقر إلى الشبكات الاستخبارية والمحللين القادرين على سبر أغوار المجتمع الأفغاني، رغم أنها تتصل به عبر حدود طولها 76 كيلو مترا، وذلك يرجع إلى وعورة هذه الطرق التي تصل ارتفاعاتها من بين 4000 و 7 آلاف مترا فوق سطح البحر. وتخشى الصين أن يمثل نجاح طالبان في الوصول إلى السلطة عبر الكفاح المسلح الذي استمر أكثر من 20 عاما ضد الأمريكيين و10 سنوات ضد الروس تشجيعا للحركات الإسلامية في شينجينانع على المطالبة بالاستقلال، وخاصة أن هناك دعما أمريكيا وغربيا لهذه المجموعات، برفعها من قوائم الحركات الإرهابية في العالم ومنحها دعما سياسيا.
ويعتقد محللون أن طالبان لن تجبر أعضاء هذه الحركة على الخروج من أراضيها في حالة بسط يدها على كل البلاد، لا سيما أن تنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية سيكون لهما وجود داخل الأراضي الأفغانية بشكل أو بآخر، لأن قبائل البشتون الذين ينتمي إليهم قادة طالبان تمتد 60٪ من تجمعاتهم داخل الباكستان ونسبة كبيرة منهم في إيران بما سيمسح لهم مساعدة الحركات الإسلامية ولو بعيدا عن سلطة الدولة. وتذكر مجلة “آسيا تايمز” الصينية أن قادة تركستان الشرقية الذين حاربوا في سوريا وعادوا إلى المناطق الحدودية عبر أفغانستان يمكن أن يشكلوا تهديدا مستمرا لمشروعات الحزام والطريق الاسترايتيجية. ورغم وصول قطار الحزام والطريق إلى مدينة بلخ على الحدود الأفغانية الصينية إلا أن الصين مازالت تشعر بالقلق وعدم الإستقرار في المستقبل، لذلك تقدم قدما وتؤخر أخرى مع نظام طالبان الجديد.
كاتب مصري