رواية «الكرنك» وضحايا إساءة استخدام السلطة

حجم الخط
0

يذهب الكثير من علماء الاجتماع ، وعلى رأسهم كرين برنتون في كتابه «الثورة» إلى القول إن الثورات تعود إلى نقطة الصفر بعد فترة انتصارها ، لكن بتطورات طفيفة ، فيعود الاستبداد الذي قامت ضده بشكل آخر، ويتم قهر واستعباد الطبقات التي كانت هي وقود تلك الثورات، والشواهد التاريخية كثيرة على انحراف الثورات وضياع منجزاتها، وعودة القديم بلباس الجديد والخاسر هم الناس.

ثوار الأمس طغاة اليوم

لا يمكن أن نقرأ رواية «الكرنك» لنجيب محفوظ، دون أن نتذكر المقولة الشائعة: «ثوار الأمس طغاة اليوم» فحينما يحصل الإنسان على السلطة والمنصب، يتولد لديه شعور بالنشوة والقوة والاعتزاز، خصوصا عندما يكون الحصول على هذا الموقع عزيزا نادرا. «وعندما يلفنا الظلام أو تسكرنا القوة أو تطربنا نشوة تقليد الآلهة فإنه يستيقظ في أعماقنا تراث وحشي ويبعث فينا العصور البائدة».

كتب نجيب محفوظ رواية «الكرنك» عام 1971 ونشرت في سنة 1974 وهي عتاب شديد اللهجة من محفوظ إلى بعض رجالات الثورة في الحقبة الناصرية، الذين أساءوا استخدام السلطة ولجأوا إلى استخدام القوة المفرطة في الاستجواب والتعامل مع الأفراد في تلك الفترة. اختيار نجيب محفوظ لاسم «الكرنك» لروايته لم يكن اعتباطياً، فالاسم مستمد من اسم أهم معابد مصر القديمة، وهو معبد الكرنك، الذي يقع جنوب مصر، وهو ما يقصد منه محفوظ، أن المقهى هو مصر بحضارتها وتاريخها العريق. في حوار رائع أجراه معه رجاء النقاش ونشره في كتابه «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته» يروي الكاتب كيف ولدت لديه رواية «الكرنك» قائلاً، إن فكرتها «وردت إلى ذهني وأنا أستمع إلى أصدقاء مقهى ريش وهم يقصون عليّ ما لاقوه من صنوف التعذيب أثناء فترة اعتقالهم. فقلت لنفسي لماذا لا أسجل هذه الأحداث في عمل روائي لألفت الأنظار إلى هذه القضية؟ واختمرت الفكرة في رأسي بعد أن قابلت اللواء حمزة بسيوني، الذي كان مديراً للسجن الحربي. وجلست أتأمل في ملامحه التي لا تظهر عليها علامات الخشونة والجفاء، بما يتفق مع ما كان مشهوراً عنه من غلظة في التعامل، وكان وقتها قد خرج من الخدمة ويحاول الرجوع إليها مرة أخرى». «يقولون إننا نعيش ثورة يستوجب مسارها تلك الاستثناءات، وإنه لا بد من التضحية بالحرية والقانون ولو إلى حين». تدور أحداث الرواية في مقهى شعبي (الكرنك) يقع وسط القاهرة، تديره راقصة أربعينية معتزلة (قرنفلة) ويلتقي فيه مجموعة من الأفراد منهم كهلة ومتقاعدون وطلاب جامعيون مؤمنون إيماناً شديداً بمبادئ الثورة وهم، إسماعيل الشيخ وحلمي حمادة وزينب دياب، ولد إسماعيل الشيخ في أسرة فقيرة جداً، وولدَ معه حبه لزينب جارته في الربع نفسه وخطبها أثناء دراستهما في الجامعة، وكانت لديهما أحلام وطموحات ككل الشباب بعد التخرج، إلى ان تفاجأ إسماعيل باعتقاله في إحدى الليالي بتهمة انتمائه إلى الإخوان المسلمين واعتقال زينب معه لصلتها به، وأفرج عنهما بعد مدة قصيرة، عندما تأكد خالد صفوان (مدير السجن الحربي آنذاك من براءة إسماعيل) وبعد مدة قصيرة تم اعتقال إسماعيل مرة أخرى بتهمة انتمائه للشيوعية، لأن صديقه حلمي حمادة كان مؤمناً بالمبادئ الشيوعية، دون أن ينتمي إلى أي نشاط سياسي، وتم إجبار إسماعيل الشيخ على أن يسجل اعترافه، بعد أن اعتقلوا زينب معه، وتم تهديده بها فاعترف إسماعيل على نفسه، حتى يتم الإفراج عنها، وبقي في السجن بضعة أشهر مع صديقه حلمي حمادة وخطيبته زينب، التي تعرضت لكل صنوف العذاب في السجن، فتم اغتصابها أمام خالد صفوان ووضعوها في زنزانة تنام وتأكل فيها وحتى تقضي حاجتها فيها أمام أنظار الحراس.
وبعد أن يتم التأكيد على براءتهم للمرة الثانية يتم الأفراج عنهم، لكن هذه المرة خرج إسماعيل وزينب وهما مجندان كجواسيس لصالح خالد صفوان، بعد أن أبرم معهما اتفاقية وهي كتابة تقارير على كل من يشكان بعدائه للثورة أو مبادئها أو رجالها. «نحن في زمن القوى المجهولة وجواسيس الهواء وأشباح النهار». تخرج زينب من السجن فاقدة عذريتها فتفقد معها كل شيء حتى مبادئها فتسلم نفسها إلى حسب الله بائع الدجاج الذي خطبها سابقاً ورفضته وإلى زين العابدين أحد موظفي مقهى الكرنك وكذلك إلى خطيبها إسماعيل الشيخ لكي تعترف له بخياناتها المتعددة، لكن بطريقة مبتكرة. التعذيب والاغتصاب والتخلي عن المبادئ كل هذه الظروف تجعلها أداة طيعة في يد خالد صفوان ورجاله فتكتب تقريرا عن حلمي حمادة صديقها المقرب بعد أن تكتشف هي وإسماعيل أنه يخفي بعض المنشورات المناوئة للثورة في منزله ويعرض عليهما العمل معه، فتندفع زينب إلى التبليغ عنه بهدف حماية إسماعيل من رجالات السجن الحربي، لكن يتم اعتقال إسماعيل للمرة الثالثة أيضاً بتهمة تخليه عن واجب حماية الثورة، عندما لم يقم بالإبلاغ عن صديقه حلمي حمادة، الذي يموت في السجن بسبب تعرضه إلى أشد أنواع التعذيب من قبل رجال السجن الحربي، ولا يتم الإفراج عن إسماعيل الذي يتعرض هو الآخر إلى التعذيب إلا بعد نكسة 1967 حين تتم إقالة خالد صفوان من منصبه بعد التحقيق معه، ويتم الحكم عليه بالسجن لمدة ثلاث سنوات، فيخرج من السجن ويلتقي صدفة في مقهى الكرنك بكل من دَمر حياتهم إسماعيل الشيخ وزينب ذياب وقرنفلة العاشقة صاحبة المقهى التي كانت تربطها علاقة حب بحلمي حمادة، رغم فارق السن بينهما، وبعد وفاته تبقى قرنفلة حزينة متشحة بالسواد لا تشارك في النقاشات التي تدور داخل المقهى إلا نادراً.
سوء استخدام السلطة قتل أحلام زينب وإسماعيل، وقضى على العلاقة التي كانت تجمعهما، خمدت جذوة الحب بينهما وأصبح لا جدوى منه، كذلك قرنفلة التي عاشت الباقي من عمرها حزينة على وفاة حبيبها حلمي حمادة. «غير أننا كنا نشعر بأننا أقوياء لا حد لقوتنا، أما بعد الاعتقال فقد اضطرب شعورنا بالقوة، وفقدنا الكثير من شجاعتنا، وثقتنا في أنفسنا وفي الأيام، واكتشفنا وجود قوة مخفية تعمل في استقلال كلي عن القانون والقيم الإنسانية».
تحولت رواية «الكرنك» إلى فيلم سينمائي بالاسم نفسه عام 1975. وهناك بعض الفوارق بين الرواية والفيلم، حيث إن الرواية لم تصل في أحداثها إلى انتصارات أكتوبر/تشرين الأول، لكن الفيلم، جعل الانفراجة السياسية، بخروج المعتقلين بعد تولى السادات، سدة الحكم في مصر.

كاتبة من العراق

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية