في فضاء مدينة البصرة الثقافي، يجد الباحث عن الإبداع الأدبي والثقافي، كنوزا من الأسماء التي تألقت في سماء المدينة ثم انطفأت، بعد أن أغنت الثقافة والأدب بعصارة ثرية ما زال الباحث والمدقق في صفحاتها، يجد فيها ذلك التواصل في أحلام التغيير ونبذ الجمود، الذي كان سمة من سمات المشهد الثقافي البصري منذ نشأته وحتى اليوم. يحمل هذا المشهد أسماء مبدعين منسيين، ينبغي علينا استعادة تراثهم والاعتناء به أمثال الراحلين: كاظم مكي حسن، محمد جواد جلال، يوسف يعقوب حداد، سالم علوان الجلبي، زكي الجابر، رزوق فرج رزوق، وكاظم الخليفة (جاحظ البصرة) وغيرهم.
لا سياسة
لقد كان الراحل (ولد عام 1933 وتوفي في منتصف ثمانينيات القرن العشرين) من صنف الأدباء الذين لم يقتربوا من السياسة والسياسيين، طيلة حياته القصيرة، لكنه كان مطلعا على النزعات التجديدية في القصة العراقية والعربية، بحكم ثقافته الواسعة واهتمامه بالنقد الذي كتب فيه مقالات كثيرة، إضافة إلى كتابته للقصة والرواية. إلا أنه لم ينشر نتاجه في الصحف والمجلات العراقية، سوى القليل منه شأنه شأن العديد من أدباء جيله البصريين وغيرهم من المثقفين والأدباء العراقيين، واكتفى بحضوره الشخصي بيننا، علما واسع المعرفة والثقافة وأستاذا متميزا، يمتلك كل مواصفات الأستاذ المربي والمعلم. أما المنشور من نتاجاته الكثيرة فيتحدد باستثناءات قليلة. كما أن بعض الأصدقاء يحتفظون له في ذاكرتهم عناوين متنوعة وطرائف عن اللغة والتراث وبعض مواقفه الإنسانية يظهر فيها نبوغه وثقافته الواسعة وخياله المبدع، وكل ذلك يدعونا إلى البحث والتقصي لنشر نتاجه الأدبي واللغوي، وما ترجمه من أعمال مسرحية وقصصية وفكرية، كي نستعيده مبدعا من مبدعي مدينته البصرة التي كانت في مركز اهتمامه باعتبارها مدينة الثقافة والأدب والفكر. وللراحل مجموعة قصصية جاهزة للطبع بعنوان «أحبولة» قرأت منها ست قصص هي: «أحبولة، الغرفة الضبابية، إنه الرحيل، شعرة الفرس، ضياء، محظوظ جدا».
كاظم الخليفة من صنف الأدباء الذين لم يقتربوا من السياسة والسياسيين، طيلة حياته القصيرة، لكنه كان مطلعا على النزعات التجديدية في القصة العراقية والعربية.
نصوص الستينيات
وتشير مضامين وتقنيات القصص الست إلى تاريخ كتابتها في منتصف ستينيات القرن العشرين، على الرغم من أنها لم تحمل ذلك التاريخ، لكن بعض تفاصيل الوصف للشخوص، والأمكنة الواردة فيها، ووجهة النظر المجسدة في ضمير (الأنا) المضخمة والمشمئزة من المحيط العام المتمثل بالناس والأمكنة وحتى الطبيعة، مع شعور متنام في أعماق الشخصية من أنها وحيدة ومعزولة في عالم معاد، كل ذلك يشير إلى فترة منتصف ستينيات القرن العشرين، يضاف إلى ذلك سيادة تيار الوعي كتقنية مهيمنة على القصص، الذي أصبح تقنية قارة في معظم القصص الستينية، كل ذلك يشير إلى تلك الفترة، وهناك مظاهر نصية من هذه القصص تشير إلى ذلك.
في قصة «أحبولة» التي تقترب كثيرا من عالم الكاتب الساخر من كل شيء، نتعرف على الملامح الخارجية لفتى وفتاة، فهو «يرتدي سروالا ضيقا وقميصا أنثويا، وبدا شعر رأسه لغزارته واضطرابه، كما لو كان قد أهمل حلاقته، وتركه ينمو وينمو. أما الفتاة فكانت هي الأخرى قد تزيت زينة عظيمة وارتدت ثوبا قصيرا يكشف عن فخذيها من تحت، ويكشف عن نهديها من أعلى، تتثنى في مشيها وضحكها وحركاتها، فلما وصل إليها قرصها، وأسرع يريد التفلت». وهذا الوصف يشير إلى فترة ستينيات القرن العشرين، الذي انتشرت فيه ظاهرة الملابس الضيقة للفتيان والملابس القصيرة (ميني جوب) للفتيات. وتكشف قصة «الغرفة الضبابية» التي تسرد بضمير الأنا المؤنث، الأجواء الكابوسية التي تغلف المدينة، من وجهة نظر امرأة تحمل قدرا كبيرا من الكراهية والحقد والاشمئزاز من رجال سحقوا أنوثتها وتهميشها كونها سلعة للبيع وللترفيه، ومن خلال هذه القصة يسجل القاص الراحل وجهة نظره لصالح المرأة. تقول الساردة/الشخصية: «منذ خمسة وعشرين عاما وأنا مدفونة بالوحدة باللاشيء .. مسحوقة بالهوان، عيناي ممتقعتان بلا حدود، أخاف أن أدوس الصخر لأسوي دربي فتلتوي قدمي ولا تسندني ذراع، أخاف أن يعتصر اليتم جسدي فيراق دمي وأذوب» ثم تستطرد في حوار داخلي إلى نهاية القصة «غرقت في ثوبي حتى اللحم، في مدينتي تستنكر العيون الجامدة منظر امرأة تسير وحدها عبر الشمس، والشمس تطارد ظلي». وعلى الرغم من الجو الكابوسي الذي تفرزه مشاعر الشخصية، نتيجة شعورها بالوحدة والضياع، فإن مشاعرها تنحرف نحو هامش يحفزه «الرجل الذي أحببته حبا كبيرا يتيما، الرجل الذي لم يحبني بصورتي المهزوزة السطحية، الرجل الذي علمني كيف يجب على الإنسان أن لا يعيش لنفسه وحدها». لتفتح أفقا متفائلا لحياتها المقبلة، وهي معادلة يقيمها المؤلف بين تسلط الذكر وطموح الأنثى بمزاحمته على سطوته حين تقول في آخر عبارة من القصة «لن أكف عن الحياة، سأعيش من أجل أن لا أصمت، أن لا يكسر قلبي (…) فلن يكون الرجل أنبل مني وأكثر إنسانية».
تكشف قصص جاحظ البصرة، ميله إلى تحجيم الحكاية لحساب الخطاب الذي يديره سارد بضمير الأنا، تمتثل الأحداث والحوارات فيه لوجهة نظره، في رحلة ذاتية إزاء الحياة.
المدينة تتوعد
نلاحظ أن الوصف التفصيلي والحوار الداخلي يحمل العديد من الصفات التي تهجو المدينة وسكانها في هذه القصة أو القصص الأخرى، وهي تحمل ترميزا لأزمة حياة، وتمردا مبطنا على علاقات سائدة، وهجاء مرا للمدنية التي تسحق الإنسان ولا تساعده على الارتقاء إلى عالم السعادة. في قصة «ضياء» تظهر رمزية المعنى في رصف الصفات والكلمات بشكل جلي، بدءا من رمزية عنوانها الذي يتضح بإجابة الرجل السارد لامرأته عن سؤالها عن ولدها ضياء قائلا: قلتها ألف مرة… لقد أنطفأ».
وتسرد القصة حكاية مألوفة عن تعرض أحد الأولاد الصغار (ضياء) لدهس عجلات باص مصلحة نقل الركاب، التي كانت من وسائط النقل الرئيسة في الستينيات، وتمزيق أجزاء من جسمه «لم يبق من أعضائه عضو واحد لم يتقطع». وإزاء ذلك ترتفع نبرة الاحتجاج على هذا الحدث ليشمل كل سكان المدينة حين يعدد السارد ـ الأب المكلوم بولده ـ وهو المعلم في مدارس المدينة مدة عشرين عاما وما قدمه للمدينة وأطفالها من خدمات كبيرة كي يكون جزاؤه هذا الحادث المؤلم: «أي ميتة أسبغتموها على طفلي، أنا الذي رعيت أطفالكم، وحنوت عليهم، وعانقتهم وقبلتهم وأطعمتهم، وربطت لهم أحذيتهم». يرتفع الاحتجاج بالنداء الجمعي الذي يطلقه المعلم/ الأب، بوجه كل سكان المدينة وأزقتها ومقاهيها وأشجارها، لتصبح نداءاته وصراخه كناية كبرى ضد المدينة والمدنية متسائلا بحيرة وغضب «أي ضمير هذا الذي يخفق في صدر الحياة، لقد مات طفلي… مزقتموه بأسنانكم». وعلى ضوء هذه العبارات يصبح أمامه كل شيء قاتما ومعاديا: فهو يرى المقهى الذي كان يرتاده على شارع كورنيش المدينة «كوخا قاحلا في أرض قاحلة» ويرى في الباخرة التي ترسو في شط العرب «كأنها تبحث عن غرقى، أو كأنها تطيل النظر في جثث ألقيت، وكانت مدخنتها الحمراء أشبه بقدر يفور بدماء الأطفال». ثم يتراءى له صف النخيل على الشاطئ «تراب مكوم على لحد طويل» ويرى الزوارق الطافية في نهر شط العرب «جماجم ثيران طافية» والضباب الذي يغلف الباخرة «بالطحين المتطاير من الأكفان».
فالقصة تنتسب لتلك الأجواء في القصة الستينية، التي أعلت من صوت السارد، الذي يتحكم بحركة السرد متمردا على قوانين الجنس الأدبي، ومؤثثا عوالم فانتازية ونفسية مضطربة، طاردة لصيغ التآلف والقرب من الآخر المهمش الذي جسدته وانتصرت لقضاياه القصة الخمسينية.
الأمل البعيد
وتكشف مجموعة قصصه هذه، ميله إلى تحجيم الحكاية لحساب الخطاب الذي يديره سارد بضمير الأنا، تمتثل الأحداث والحوارات فيه لوجهة نظره، في رحلة ذاتية إزاء الحياة، كما نلاحظ أن العديد من القصص تحمل وجهة نظر أخلاقية عن المدينة، التي جلبت الشرور والمآسي، ولذا نجد السارد في قصتي «إنه.. الرحيل» و»شعرة الفرس» يدعو إلى الرحيل:
«وعلى جانبي شط العرب تجمع قوم بانتظار قارب أو عبارة لينقل كل فريق إلى غايته (…) كل شي ء يرحل إلى مثواه وإلى مستقره… رحيل بعد رحيل… وحتى رواد المقاهي على الساحل والأندية في الداخل يتجمعون شيئا فشيئا لينفرط عقدهم في ما بعد حبات حبات أو حبة حبة، وبعد أن يصيح في أعماقه وأعماق سواهم صائح بالرحيل».
فقصص المجموعة تمثل وجهة نظر كانت قارة في القصة الستينية، تهجو المدينة وأجواءها الكابوسية التي تتآمر على الأحلام والرؤى الإنسانية وتجهضها لصالح الفساد والتسلط والعسف، وتحاول بناء أفق حلمي أو فردوس أرضي مفترض، أو الهجرة إلى فضاءات بعيدة عن المدن المدنسة. وهي مهمة فنية وحلم من الأحلام ما زالت القصة العراقية تحاول إنجازها بطرق وآفاق جديدة.
٭ كاتب عراقي