كيف يُعاد بناء الدولة السورية؟

في بيان أصدره ليل الإثنين الماضي زعيم «هيئة تحرير الشام» أحمد الشرع، المعروف سابقاً بلقب الجولاني، أعلن نيّته «حلّ الفصائل (المسلّحة) وتهيئة المقاتلين للانضواء تحت وزارة الدفاع» واعداً أن «الجميع سيخضع للقانون» إذ حان وقت التزام «عقلية الدولة لا عقلية المعارضة». وحيث أدلى الشرع بتصريحه خلال اجتماع مع عدد من أبناء الطائفة الدرزية وفق رواية البيان، أضاف أنّ «سوريا يجب أن تبقى موحّدة، وأن يكون بين الدولة وجميع الطوائف عقدٌ اجتماعي لضمان العدالة الاجتماعية» وأن «ما يهمّنا هو ألا تكون هناك محاصصة» مؤكداً أنه «لا توجد خصوصية تؤدّي إلى انفصال».
يبدو هذا الكلام مبشّراً بالخير لوهلة أولى، إذ إن غاية إعادة بناء دولة سورية موحّدة (حتى لو استثنينا الجولان المحتلّ) يسود فيها القانون وتتفادى المحاصصة الطائفية التي أفسدت النظام السياسي في كل من لبنان والعراق الجارين لسوريا، ولا تمزّقها حالة انفصالية، إن تلك الغاية تبدو حميدة بالتأكيد. بيد أن الحقيقة أعقد من ذلك، وقد تستحيل أفضل الغايات المعلَنة مدخلاً للمآسي من حيث المقصد الحقيقي والتطبيق الفعلي.
فلننظر في حيثيات الحالة السورية الراهنة. كانت دولة آل الأسد، بعد عراق آل التكريتي وليبيا آل القذّافي، آخر «الجملوكيات» الميراثية العربية، أي جمهوريات تميّزت بتملّكها الخاص من قِبَل عائلة حاكمة على غرار الملَكيات. أما خاصية جهاز الدولة في مثل هذه الدول، ولاسيما الأجهزة المسلّحة، فهي الارتباط العضوي بالعائلة الحاكمة من خلال وشائج شتّى، تبدأ بالعائلة الضيّقة ثم الموسّعة، وتشمل حسب الحالات العشيرة والقبيلة والطائفة والإقليم، ناهيك من الزبونية والمحسوبية المنتشرتين حتى في الدول حيث ثمة استقلال نسبي لجهاز الدولة عن الذين يترأسوه. أما مشكلة الأنظمة الاستبدادية في الدول الميراثية، فهي أنه يصعب للغاية إسقاط النظام فيها بدون أن تسقط معه الدولة برمّتها، أو أجهزتها الحاكمة والمسلّحة على الأقل.
وهذا ما حصل في سوريا حيث انهارت دولة آل الأسد، وعلى الأخص جيشها وقواها الأمنية وسجونها، انهياراً تاماً اتخذ شكل خلع المسلّحين لملابسهم العسكرية وذوبانهم في مجتمعهم الأصلي. ومن نتائج هذا الانهيار أن السلاح بات منتشراً انتشاراً واسعاً في سوريا، ليس السلاح بيد الفصائل المسلّحة على اختلاف أنواعها وحسب، بل حتى السلاح بيد الأفراد غير المنضوين تحت راية أي طرف منظّم. وتدلّ كافة التجارب التاريخية على أنه من العسير للغاية جمع السلاح من الناس في مثل هذه الحالات، إن لم تكن هناك قوة تحوز على رضى الأغلبية، وتفوق الجميع هيبةً، وتردع الجميع من الاستمرار باقتناء سلاح بات «خارجاً عن القانون».

الخطوة الأولى الضرورية في هذا المجال، إنما هي طمأنة أهل جميع مكوّنات الجمهورية السورية إلى أن الدولة الجديدة ستأخذ مصالحهم بالحسبان وأنهم سوف يكونوا ممثلين داخلها

أما عندما يدعو الشرع إلى حلّ الفصائل المسلّحة وانضوائها تحت راية جيش شرعي جديد وخضوع الجميع للقانون، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن هو سؤاله ممّن يتكوّن الهيكل العظمي للجيش الشرعي الجديد الذي تُدعى «الفصائل» إلى الانصهار في بوتقته، وكيف يتم فرض القانون، وأي قانون، يا تُرى؟ وإذ تسود الحالة السورية حالة من التفتت الإقليمي والطائفي، كيف يُعقل أن يقتنع بالأمر المسلّحون المنتمون إلى شتّى الأقليات، من قومية على غرار الحركة الكُردية شرقي نهر الفرات، أو طائفية على غرار المسلّحين الدروز والعلويين، سواء أكانوا منظّمين أو غير منظّمين (حتى إشعار آخر) ناهيك من أهل الأكثرية القومية والطائفية السورية الذين تختلف تطلّعاتهم عن تطلّعات «هيئة تحرير الشام» بل تتعارض معها؟
فالخطوة الأولى الضرورية في هذا المجال، إنما هي طمأنة أهل جميع مكوّنات الجمهورية السورية إلى أن الدولة الجديدة ستأخذ مصالحهم بالحسبان وأنهم سوف يكونوا ممثلين داخلها بما يتناسب مع حجم جماعتهم النسبي من خلال عملية ديمقراطية سليمة، وأن المركزية الاستبدادية التي فرضها النظام البعثي المخلوع سوف يُستعاض عنها بدرجة من اللامركزية تتيح لأهل شتى المناطق أن يكون لهم نصيب ديمقراطي من إدارتها، وأن الأقلية القومية الكُردية على الأخص ستنعم بدرجة من الحكم الذاتي بالتوافق مع سائر الشعب السوري والأعراف الديمقراطية الخاصة بالأقاليم التي تعيش فيها أقليات قومية.
أما منحى ما دعا إليه الشرع وما فعلته «هيئته» حتى الآن، فلا يوحي بسلك مثل تلك الطريق، بل يوحي على العكس برغبة في إرساء دكتاتورية جديدة تشكّل «الهيئة» عمودها الفقري ويكون الشرع زعيمها. ذلك أن تشكيله حكومة جديدة، ولو كان مفترَضاً بها أن تكون «مؤقتة» هي استمرارٌ لحكومة منطقة إدلب في ظلّ سلطة «الهيئة» وتأكيده على نبذ المحاصصة بغياب تطمينات حول تمثيل الجميع سياسياً في الدولة الجديدة، واكتفاءه عوضاً عن ذلك بالوعد بعقد «اجتماعي» لضمان العدالة «الاجتماعية» بما قد يُفهم منه أنه ينظر إلى أهل الأقليات وكأنهم «أهل ذمّة» في دولة خلافة، بدل أن يكونوا مواطنين ومواطنات متساوي الحقوق في دولة ديمقراطية حديثة، فكلها أمورٌ مثيرة للقلق على المستقبل. هذا وناهيك من أن قدرة «الهيئة» على فرض سلطتها على الجميع بمثل هذه الشروط، إنما هي قدرة مشكوكٌ بها للغاية.
إن ما يتطلّبه بناء دولة ديمقراطية مدنية، لا عسكرية ولا دينية ولا طائفية ولا عِرقية، في سوريا، وهي الصيغة الوحيدة التي من شأنها تحديث البلاد، إنما هو تشكيل حكومة ائتلافية تُمثّل فيها كافة الأطراف والفصائل المعارِضة لنظام آل الأسد، مع وضع جدول زمني لانتخاب مجلس دستوري في مهلة سنة، بما يتيح للقوى السياسية أن تُعيد تشكيل نفسها وأن تخوض في ميدان المنافسة السياسية الديمقراطية قبل عقد الانتخابات الدستورية التي لا بدّ من أن يليها استفتاء شعبي على الدستور المُصاغ، تليه من ثمّ انتخابات تشريعية في مهلة قريبة. هذا هو الطريق السليم إلى انبثاق حكومة تقرّ كافة مكوّنات الشعب السوري بشرعيتها وتستطيع فرض احتكار الدولة للسلاح الشرعي تحت راية قانون جديد يليق بدولة ديمقراطية. أما عدا ذلك فوصفة لغرق سوريا في مزيد من التناحر، هو أبعد ما يكون عمّا يصبو إليه الشعب السوري بعد تخلّصه من عائلة ذاق منها الأمرّين طوال أكثر من نصف قرن، وبعد عذابه من أكثر من عقد من حرب أهلية طاحنة.

كاتب وأكاديمي من لبنان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول علاء:

    من الضروري التروي في المرحلة الحالية وعدم التسرع في إصدار الأحكام المسبقة خاصة وأن سقوط نظام بشار لم يمر عليه إلا بضعة أيام، لكن يجب على السوريين التحلي باليقظة والحذر الشديدين، فالخطر الحقيقي يكمن ليس فقط في استئثار فصيل واحد بالسلطة دون توافق وطني، بل أيضًا في قدرة هذا الفصيل على توظيف أدوات السلطة والإعلام لتثبيت موقعه

  2. يقول طلال:

    الخشية أن ينقلب هذا المسلسل الذي تجري أطواره حاليًا في سوريا من سيطرة فصيل واحد على مقاليد الحكومة الانتقالية بعد إسقاط بشار الأسد إلى مشهد (مثير للسخرية) مشابه لما ظهر في فيلم “The Dictator” لساشا بارون كوهين، حيث يسعى شخصية دكتاتورية إلى تعزيز سلطته بشكل استبدادي

  3. يقول حنا:

    حدث فراغ هائل في سوريا و كان لابد ملئه بسرعة لمواجهة متطلبات الناس الغذائية والدوائية و المواصلات على قلتها انقطعت هذا عدا عن الأمنية ، يمكن ان تبقى دولة مثل لبنان بدون رئيس او بلجيكا بدون حكومة لاشهر و لكن سوريا انهارت لعدة أيام و سرعة تسلم حكومة ادلب أنقذتها من التشرذم والانهيار و المرحلة المؤقتة تتطلب بعض الوقت لان الوضع المعيشي على الأرض مزري و غير صالح للبشر …. هذا من الناحية العملية ، تلك الفتاة السورية التي رفعت الحذاء بوجه المندوب الاممي كانت لسان حال جميع السوريين !

  4. يقول بشير:

    نأمل أن يعاد بناء الدولة ، وجود هيكل قوي و عادل يساعد على ذلك ، الفرحة كانت جامعة و لكن التركة ثقيلة جدا

  5. يقول عماد غانم:

    في خطابه بحضور “كاميرون/ بريطانيا” و”ساركوزي/ فرنسا”، توسل رئيس انتقالي ليبيا “مصطفى عبدالجليل” الناتو تمديد مهمته لبضعة شهور لنزع سلاح الفصائل ، وعدم استجابة الناتو أدخل ليبيا في حرب أهلية وشلل ما زال الطريق طويل للتعافي منه ، نزع سلاح الفصائل هو خبر سوريا اليوم في الصحف الأمريكية ، وهو خطوة عملاقة وفي الاتجاه الصحيح ، والكرة في ملعب العراق ليحذو حذوها
    أسوأ من حكم مصر في العصر الحديث “مرسي والاخوان المسلمين”، أما أفضل من حكمها فليس عبدالناصر أو السادات أو مبارك أو السيسي ، بل (فايزة أبو النجا وتهاني الجبالي) في الفترة ما بين تنحي مبارك وانتخاب مرسي ، فتنظيف سوريا وإعادة بناء مؤسساتها وجيشها يتطلب وقت ، وخبرات كابو النجا والجبالي (متوفرة جدا في سوريا) لا يعرقلها محاصصات برلمان وشغب أعلام ونخب

  6. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا:

    شكراً أخي جلبير الأشقر. من ناحية تعبير «الجملوكيات» اقترح تعبير “الجمهولكيات” نظراً لأن الهلاك يأتي بشكل طبيعي بداخلها مما يعبر خير تعبير عنها، وكما ورد في المقال. صراحة أشكرك على توضيح فكرة العقد الإجتماعي التي تحدث عنها الشرع والتي لم ألحظها بنفسي عندما تتبعت كلامه المتداول على منصات التواصل الإجتماعي. ويبدو أننا أمام سنوات لن تكون سهلة على المجتمع أو الشعب السوري ليصل إلى غايته المنشودة والتي بدت واضحة في السنوات الأولى للثورة وقبل توحش النظام واستدعاءه لكافة الأحتلالات لتمزيق سوريا وشعبها. لا أشك لحظة بأن المجتمع السوري يزيد ويحناج دولة مدنية، لكن هل ستكون النخبة السياسية على مستوى المسؤولية هذه المرة، بعد أن فشلت النخبة العربية عموماً قي أن تكون في مقدمة الربيع العربي وكان ذلك واحد من الأسباب التي أدت إلى فشله. لكن هاهو الربيع العربي عاد من جديد بانتصار هذه الثورة على واحد من أبشع أنظمة التوحش والإسنبداد والفاشية التي عرفها التاريخ لتعود سوريا حرة أبية. فهل ستعود دمشق إلى واجهة التاريخ من جديد، إنها فرصتنا الذهبية ليكون يوم مشرق لسوريا والعالم أجمع وإن شاء الله.

  7. يقول جلال الملقي:

    لا يحتمل الظرف الحالي أبداً التأخر في اتخاذ القرارات المتعلقة بالأمن والسلامة وتوفير مستلزمات تعافي الإدارة الحكومية ومستلزمات الحياة للسكان، لكن توجد أخطار الانجرار للاستبداد ثانية أو الفوضى الأمنية،
    السؤال ماهي التدابير الحكومية السريعة التي تحافظ على مسار التعددية السياسية بل تهيء
    لها ولاتبطئ اتخاذ القرار؟

اشترك في قائمتنا البريدية