على بعد أسابيع قليلة من حفل توزيع جوائز الأوسكار، والإعلان عن أسماء الفائزين، وبوجه خاص في الفئات الأكثر أهمية، كجائزة أفضل فيلم ومخرج وممثل وممثلة، يأتي فيلم « The Revenant (العائد) بوصفه من الأفلام المرشحة لنيل بعض من هذه الجوائز، ومنها جائزة أفضل ممثل، حيث رشح لها باقتدار الممثل الأمريكي ليوناردو دي كابريو، الذي استطاع أن يلعب دوراً غير نمطي انطلاقاً من الرؤية التي ينتهجها هذا الممثل بدءاً من فيلمه الأشهر «تيتانك»، حيث سعى لتجسيد أدوار مختلفة في معظم أفلامه، من حيث التوصيف والشكل، ومنها دوره في الفيلم الأخير، ولكن برؤية المخرج المكسيكي أليخاندرو غونزاليز إيناريتو، الذي أخرج ستة أفلام، رشح بعض منها لجوائز الأوسكار.
يعد فيلم «العائد»، أو بالتحديد «العائد من الموت» من الأفلام التي تتخذ من أزمنة الغرب الأمريكي سياقاً لأحداثها، غير أن هذا الفيلم يبدو مفارقاً للأنساق التي دأبت هوليوود على تجسيدها، وتحديداً من خلال الاتكاء على صورة بطل الغرب الأمريكي الوسيم، والقادر على تحقيق انتصارات، سواء عبر قتال الهنود الحمر، أو عبر القضاء على المنافسين من قطاع الطرق واللصوص. وإذا كانت السينما الأمريكية قد اتخذت من تمثيلات الهنود الحمر وقوداً لأفلامها لعقود خلت، غير أنها في هذا الفيلم حادت بعض الشيء عن منهجها، من خلال عدة انزياحات طالت مستويي الرؤية والتجسيد، خاصة في ما يتعلق بحضور الهندي الأحمر في الوعي السينمائي الأمريكي، حيث بدأ يتضح بعض من ملامح التمثيلات ما بعد الكولونيالية، وهنا يجب ألا يغيب عن أذهاننا أن أمريكا أحد أبرز منتجات الحقبة الاستعمارية الكولونيالية، حيث شهدت تحولها من دور المستعمَرة إلى دور المستعمِرة.
ينهض تحليلنا لهذا الفيلم على منظورين، الأول يتعلق بالرؤية الفنية التي استطاعت أن تصوغ وعياً جديداً ضمن ما بات يعرف بفئة أفلام الغرب الأمريكي، حيث نلاحظ شكلاً من الانزياح الواضح عن الطبيعة الجغرافية التي بدت في فيلم «العائد» غير مألوفة، أو كما اعتدنا عليها في أفلام الويسترن التي تنهض على نمط يعكس الحياة الأمريكية التي تتمثل بنماذج رعاة البقر في تكساس، وغير ذلك. ومما يدخل في باب الانحراف عن نمطية الاستهلاك الصورة البصرية، والذهنية للغرب الأمريكي سينمائياً، فأجواء فيلم «العائد»، تنهض على مشاهد شديدة التعبير عن قسوة الطبيعة، ولا رحمتها حيث تدور معظم الأحداث في فصل الشتاء، ومشاهد الثلوج البيضاء، والبرد الشديد، فالطبيعة هنا تمثل تكويناً دلالياً، إذ أذكت مشاعر الاكتئاب والفراغ والقسوة، غير أن هذا جاء ضمن سرد، أو إيقاع بطيء، متوتر، وإلى حد ما كنائي، فتلك المشاهد القائمة على حضور الإنسان في الطبيعة بتكوينها البدائي والخام، وغير المنضبط، كما الألوان الباردة التي نجحت في تكوين حالة تلق خاصة، نظراً لسعة المشاهد البصرية التي ترتكز على مواقع الكاميرا كي توحي، وتنقل للمشاهد الضياع والتلاشي، كما فقدان الأمل، وتحديداً حضور الموت في صورة تحتمل الكثير من التطرف، بالتوازي مع تجسيد قيم التنازع البيئي والعرقي، وذلك بين عناصر عدة، فالصراع في الفيلم يتبدى بأكثر من مستوى، منها الطبيعة والإنسان اللذان يشكلان المنظور الثاني في تحليلنا.
ولعل تجسيد الموت، وقهره بدافع الانتقام، قد اتكأ على شخصية هوك أحد أعضاء فريق يتكون من المهاجرين البيض الذين يعملون في صيد الحيوانات بهدف الحصول على جلودها، وبيعها لصالح شركة تجارية. هوك الذي يتعرض لمهاجمة دب ضخم، في مشهد مؤثر من ناحية الإتقان، يخرج هوك من هذا الصراع، ولكن على شكل بقايا إنسان حيث قام الدب بتمزيق جسده، وتسبب بجروح خطرة، تقترب بهوك من حافة الموت، مما يتطلب رعاية من فريقه الذي يقوم قائده بخياطة الجسد الممزق، غير أن هنالك من الفريق من يضيق ذرعاً بهوك، وهنا ينقسم الفريق حول قرار التخلي عن الرجل لصعوبة العناية به في ظل مخاطر، تتمثل بالبرد الشديد، والثلوج، علاوة على تهديد قبائل الهنود الحمر. يكلف قائد الفريق رجلين للعناية بهوك واعداً إياهما بجائزة مالية مجزية، أحد هذين الرجلين فيتزجيرالد «العنصري» الذي حاول قتل هوك، غير أنه يفشل نتيجة تدخل ابن «هوك»، بيد أن فيتزجيرالد يقتل الابن الهجين – كونه من أب أبيض «هوك» وأم هندية – وهكذا يشرع هوك في رحلة أسطورية قوامها الانبعاث من الموت، وتجاوز الظروف القاسية من برد، ومخاطر، مدفوعاً برغبة الانتقام التي ينظر لها بوصفها قوة داخلية لتجاوز كافة المصاعب، حيث تخلى الجميع عنه بعد أن تحول إلى عبء. يصل هوك في نهاية المطاف للرجل الذي قتل ابنه، ولكن بعد مطاردة طويلة للانتقام، ولكنه مع ذلك يتخلى عن هذه الرغبة، حيث يترك فيتزجيرالد لمجموعة من الهنود الحمر كي يقوموا بقتله، وتحقيق انتقامهم الكولونيالي جراء جرائم الرجل الأبيض، ومن هنا بالتحديد، يبدأ التعالق الدلالي عبر المستوى الكولونيالي، فالانتقام منوط بالقدر، ولعل هذا ما تعلمه هوك من رجل هندي أحمر ساعد هوك، وعالجه من جروحه.
تتضح ملامح الإشكالية الاستيطانية الاستعمارية، بدءاً من ابن هوك الذي قتل كونه نتاج زواج الصياد الأمريكي «هوك» من فتاة هندية، التي تقتل بدورها على أيدي الجيش الأمريكي ضمن سلسلة الجرائم التي ارتكبها المستعمرون البيض للقضاء على الوجود الهندي الأحمر في العالم الجديد. هذا التكوين الهجين للفتى كان معرض إهانة، من قبل أحد أعضاء فريق الصيد، ولا سيما فيتزجيرالد الذي يتلفظ بألفاظ عنصرية، وكراهية واضحة للابن، حيث ينعت بالفتى الهجين، والهمجي، فالابن هو نتاج المستعمرات الجديدة التي أفرزت تكوينات عرقية هجينة، وهي غالباً ما تقع بين تلك المساحة البينية التي ناقشتها الدراسات ما بعد الكولونيالية، وهنا نلحظ ذلك القلق في مستوى التعبير عن هذه القضية، وهو ما ينعكس على مسلك شخصية البطل هوك التي تبدو حائرة في المحافظة على قدر من التوازن بين مرجعيتها البيضاء، ومستقبله الجديد الذي صاغه زواجه من فتاة هندية قتلت على يد ضابط أمريكي أبيض.
لا شك في أن مستوى التعبير عن بعض العناصر الدلالية للسينما الأمريكية من منظور ما بعد كولونيالي يتضح عبر مستوى الهجنة، حيث ما زال الرجل الأبيض رافضا للاختلاط، وهكذا فلا غرو أن يقتل الفتى على يد الأبيض فيتزجيرالد، كما قتلت زوجة هوك على يد الجيش الأمريكي، وكما قتل الهندي الاحمر الذي ساعد هوك للشفاء من جروحه التي تسبب بها الدب، علاوة على مشهد يعكس بشاعة الجرائم التي ارتكبها البيض بقرية تقطنها بعض القبائل الهندية.
ينهض الفيلم على رؤى رمزية وشعرية تتمظهر بمشهد الأشجار المصحوب بقصيدة وأغنية ينطويان على عبارات، أهمها ما يتعلق بأن الريح مهما اشتدت وقويت، فإنها لن تتمكن من اقتلاع الأشجار التي تضرب جذورها عميقاً في الأرض، وهنا إحالة أليغورية لارتباط الإنسان بوطنه وأرضه. لا شك في أن هذه الرؤية لا يمكن أن تصدر إلا عن رؤية إخراجية تنتمي إلى منظومة المهمشين، ونعني المخرج المكسيكي الأصل الذي أتقن صوغها عبر مشاهد رمزية تعتمد مشهد الأشجار العالية في أكثر من مشهد، حيث تعبر الكاميرا من أسفل إلى أعلى، وبالعكس، وهذا يأتي تعبيراً عن تقدير العلاقة الرمزية للإنسان مع وطنه، وهنا إحالة لمجتمعات الهنود الحمر، وغيرهم، ممن عانوا من أنساق الاقتلاع والقتل، كما التهميش، واحتلال الأراضي.
وتتضح إحدى مفردات الخطاب ما بعد الكولونيالي عبر الرؤية الممنهجة لاستثمار واستغلال الأراضي، ومقدراتها، وهي أراض لا تنتمي للرجل الأبيض الذي يقوم بقتل الحيوانات ليبيع جلودها، حيث نجد أن الحملة، وفريق الصيادين كانت تابعة لشركة تجارية كبرى تدير هذه الممارسات من أجل تحقيق مستوى ربحي؛ ولتحقيق ذلك فلا مانع لديهم من قتل السكان الاصليين بهدف تسهيل مهمة التجارة. يتضح مستوى التداخل بين القوى الاستعمارية، والمبدأ الاقتصادي، بل إن هذه الأرض الجديدة ما هي إلا مجال لتنافس حيوي بين قوتين استعماريتين، كما تجلى عبر وجود فريقين يقومان بمهمة الصيد، واستثمار المقدرات الاقتصادية للمستعمرة الجديدة، فبالإضافة إلى الشركة الإنكليزية ثمة شركة أخرى تتمثل بفريق الصيد الفرنسي. وفي مشهد عميق الدلالة نرى بعض الهنود الحمر يقومون بالمقايضة مع فريق صيد فرنسي بهدف الحصول على بعض الخيول والبنادق للدفاع عن أنفسهم، غير أن الفرنسيين يبخسون تلك الجلود، ويتهمون الهنود الحمر بسرقتها، فيكون رد الهندي الأحمر قاسياً، حيث يقول: «وأنتم قد سرقتم الأرض، وكل شيء منذ أن وطأت أقدامكم هذه الأرض». ولعل هذا المشهد من أشد المشاهد تأثيراً على مستوى البنية الايديولوجية للفيلم الذي استطاع أن يحقق مستويات متقدمة من معايير النجاح، سواء على مستوى المقصدية الفكرية، أو الأداء، وبوجه خاص أداء الممثل ليوناردو الذي نجح في أن أن يعكس تمثله لمفاهيم ارتباط الإنسان بالأرض، والطبيعة، والانتقام، ولاسيما تلك المشاهد المعنية بمستوى التكيف الخارق مع البيئة، حيث تمكن من تجاوز آلامه، وجسده الذي خيط معظمه، كما روحه المعطوبة، فهزم الثلوج والبرد وتهديدات الصيادين الآخرين، الذين قاموا بقتل الرجل الهندي الأحمر الذي ساعد هوك على الشفاء من جروحه، فقاموا بشنقه على شجرة، كما علقوا على صدره لافتة كتب عليها «همجي»، وهي الكلمة التي تكررت أكثر من مرة على لسان فيتزجيرالد من قبل، وهكذا نقرأ رسالة تتمثل بأن ثقافة الهندي الأحمر، ومسلكه، كان أقرب إلى نهج الإنسانية، ففي الوقت الذي تخلى الرجل الأبيض عن هوك، وحاول قتله، كان الهندي الأحمر يساعده على البقاء والحياة، وهنا نقرأ أن الطبيعة، وأصحاب الأرض الأصلانيين كانوا أكثر انسجاماً مع التكوين الإنساني من الثقافة البيضاء الطارئة.
ومن أهم المشاهد المؤثرة على مستوى الأداء التقني الإخراجي تلك الاستدعاءات والتذكرات التي قام بها هوك، وتتعلق باستدعاء ذكرى زوجته الهندية التي تزامن حضورها مع عبارات تتحدث عن الأشجار، وتجذرها في الأرض، أو مشهد القتال مع الدب، أو مشهد شق هوك للحصان، واستخراج أحشائه للنوم بداخله نتيجة البرد الشديد. لقد استطاع ليوناردو دي كابريو أن يجسد الشخصية بنجاح عبر تضافر عدة عوامل، منها رؤية إخراجية متميزة، وسيناريو متقن لغوياً وبصرياً، وأداء مبهر، حيث نلمح أن مشاهد الصمت في الفيلم لعبت دوراً كبيراً، حيث تقدمت الصورة والحدث المتعالق بالتأمل، والترقب في ظل قسوة الطبيعة، ونتائج الحدث، فالملاحظ أن ليوناردو أو هوك لم يتحدث في هذا الفيلم كثيراً، فليس ثمة حوارات مجانية، إنما كان هنالك تراجع واضح لمستوى الحوار بوصفه لازمة سينمائية، فالصمت في هذا الفيلم كان له الحضور الأبرز، حيث أتاح مجالاً للتفكر، كما التأمل البصري، ولاسيما، ونحن نتابع تغضنات وجه هوك متلمسين مقدار الألم الذي يجتاحه، بل إن الحوارات جاء جزء كبير منها بلغة السكان الأصلانيين، لبيان القيمة الخاصة لهذه الحضارة.
ثمة إذن رؤى جديدة استطاع هذا الفيلم أن يطورها، ولاسيما في ما يتعلق بهذه الفئة من الأفلام، ولم يكن هذا ليتحقق لولا رؤية إخراجية أتت من خارج المراكز الحواضرية لعوالم هوليوود التي اتهمت مؤخراً بالعنصرية، نظراً لأن أغلب أعضاء الأكاديمية من البيض، مما يتسبب بإقصاء غير البيض من الترشح، والحصول على جوائز الأوسكار.
كاتب فلسطيني- أردني
رامي أبو شهاب