لطالما كان الإعلام، ولا يزال، حبيس الصراع بين سلطتي الدين والسياسة، مرغما في بعض الأحيان، وفق ما تشتهيه نخب السلطتين، وطواعية أحياناً أخرى، وفق ما تقتضيه مصلحة الإعلام كمنصّة فاعلة وشخوص، ما يعصف غالبا بالحياة المهنية للإعلامي وبمصداقيته وتأثيره في الرأي العام.
يعتبر الإعلام فاعلا متقدما منذ بداية التاريخ، استهل مسيرته في حقلي الدين والسياسة، فانطلقت الحناجر لحشد الرأي العام أو تفرقته، للدعم أو التشويه، من دور العبادة بأنواعها، فمن هناك كانت تُعلَن الحروب وتُوقّع معاهدات السلام، على اختلاف المسميات. ويكشف التاريخ المكتوب والحاضر المُشاهَد عن طبيعة العلاقة بين الإعلام والسلطتين الدينية والسياسية، وعن سرعة تغير دوره، فما أن تراه في خدمة السياسة حتى تجده من أشد خصومها، ومن منبر للسلطة الدينية إلى ألدّ أعدائها. منه إعلام حُرّ يدافع عن مصالح الأمم، ومنه اللاهث على مكان بين صفوف إحدى السلطتين، وآخر يختار أجندته وفق ما تقتضيه المصلحة. ومنذ أن «أنبأ» آدم عليه السلام الملائكة بأسمائهم التي أوحى الله بها إليه، إلى أن أصبح الأب يعلم عن حياة أبنائه من مواقع التواصل الاجتماعي، وصارت مصائر أممٌ تُحدّدُ من خلال عقد اجتماعات واتخاذ قرارات والإعداد لثورات أطاحت بأنظمة وكيانات حكمت لعقود، كان الإعلام ولا يزال صاحب الفضل، وإن اختلفت الآليات والتوجهات والأهداف.
لم تطرق الحرية باب الإعلام العربي ولا الكثير من نظيره في الغرب بعد، وأكاد أجزم بوجود القليل فقط من المؤسسات الإعلامية غيرِ المنحازة إلى طرفٍ مّا، لا في شرقيّ الأرض ولا في غربها، فلأغلبها أهدافها النابعة من حقل سياسي مّا، الذي بدوره يعتمد على، أو يعتبر شريكا لجهة دينية ما، من أقصى اليمين لأقصى اليسار، مرورا بالعلمانية، التي تحاول في قلبها السيطرة على الدين والسياسة كلّ في مهده، ما بين دور العبادة والبرلمانات، ما أبقى الإعلامي، دائم التردد وتاركاً الباب مواربا، خوفا من سياط جلادي الدين والسياسة. فبينما تجبره مصالحه أحيانا على مسايرة منظري السياسة، خوفا من الصاق تهمة تتعلق بالأمن القومي، غالبا، يبقى على مسافة آمنة من منظري الدين أحيانا، كي لا تصيبه رصاصة التكفير، وهي سلاح بعض من اتخذوا من الدين ملجأً لهم. والكثير من اعتداءات السلطتين على إعلاميين بسبب آرائهم في شتى بقاع الأرض معروفة. ويتطوع بعض الإعلاميين للعمل تحت عباءة القوة مهما اختلفت أيديولوجياتها، مثل بعض الإعلاميين المصريين الذين صفقوا لنظام الرئيس المخلوع مبارك لعقود وتربوا على أيدي أجهزة أمنه، وما أن أمسك الإخوان المسلمون بالحكم حتى باشر أولئك بتمجيدهم والتباكي من ظلم نظام مبارك، فما أن سقط حكم الإخوان، أو أُسقِط، حتى طالب أولئك بالثورة على المساجد، في مقاربة للثورة على الكنيسة في العصور الوسطى، فقرأوا أخبارهم وتحليلاتهم من أوراق مروّسة بإسم أجهزة السلطة الجديدة. إن كلتا السلطتين غالبا مرتبطتان، فالسياسية تؤسس جماعات تدافع عنها، وتهيئ الشعوب لاستقبال قراراتها باسم الدين، مختصرة عليها محاربة المتشددين والاعتقالات والاغتيالات السياسية وحتى الجسدية. فيما تملّكت المؤسسات الدينية سياسيين، وابتاعت جماعات داخل الدولة تتحدث باسمها وتدافع عن مصالحها تحت مظلة الديمقراطية وحقوق الإنسان والانتماء.
وبينما تعتمد الدول على قوتها العسكرية والاستخبارية والتكنولوجية في الحروب الخارجية، وعلى أجهزتها الأمنية داخليا لضبط الأمن وتحديد العلاقة مع شعوبها والمعارضة، فإنها تستخدم الإعلام كقوة خفية لإدارة الرأي العام في القضايا المرحلية، أو المصيرية، والحفاظ على توازنات القوى الداخلية، ما يجعل الإعلام أهم من قوة أجهزة الأمن، إضافة لاستخدامه في الدعاية الخارجية للسلم والحرب، أو لادعاء الديمقراطية أو نفي الديكتاتورية، حسب الحاجة.
إن المصالح المتبادلة في إطار ثالوث الدين والسياسة والإعلام تكشف زيف الأخير في بعض الأوقات، في معرض دفاعه عن كليهما، في حين تتولى السلطتان الدفاع عن الإعلام كأداتهما للتأثير في قرارات الشعوب، حيث تلتقي الأهداف غالبا. ويمكن تفسير العلاقة البيولوجية بين الإعلام من جهة والسلطتين من جهة أخرى بالطفيلية التي يستفيد فيها الجميع، إلا أنها تتحول إلى عداء غالبا، حين يتمرد طرف على الآخر عند انتهاء المصالح، أو يتخلى أحدهما عن خدمات الآخر وفق التحولات السياسية، فينكشف دور الإعلام المأجور، خاصة حين يكون صنيعة إحدى السلطتين.
ومن أمثلة التمازج بين السلطتين الدينية والسياسية الكثير، من النازية إلى الصهيونية إلى بعض المؤسسات الدينية. فقد استخدم هتلر في حروبه جيوشا من المنظرين الدينيين لحشد الرأي العام بالترغيب والترهيب فاحتل أوروبا، وما أن انتهى حتى ظهرت جماعات دينية اتهمته بالإلحاد ونفت مسؤولية الدين عن جرائمه، واستغلت إعلامها لمساعدة السياسة للخروج من مأزق الديكتاتورية والتنظير للديمقراطية.
وأما الصهيونية، وهي حركة سياسية دينية عملت على حشد الرأي العام اليهودي لأهداف سياسية ودينية أساسها إقامة وطن قومي لهم في فلسطين، مستغلّة الإعلام بأشكاله ومتقلبة بين السياسة والدين لتحقيق غاياتها، فتستخدم الإعلام كمنصة دينية لخدمة السياسة، وتستخدمه سياسيا لنشر أفكارها الدينية، وبنت منذ تأسيسها حتى اليوم أقوى المؤسسات الإعلامية في العالم، وتنفق مبالغ طائلة لصناعة صحافيين ومثقفين من كل الاتجاهات يدعمون أهدافها باسم الحرية السياسية تارة، وباسم الهوية الدينية أخرى.
وبالتعمق في ميكانيزم الحركة الصهيونية نجدها الأسرع في الانقلابات الإعلامية، حيث انكشف مؤخراً للكثير من الإعلاميين الذين صنعتهم زيف ادعاءاتها، فأعلن بعضهم ذلك وبدأوا بمهاجمة صانعيهم، ما يراه محللون تكفيرا عن ذنوبهم الإعلامية أو حماية لمسيرتهم المهنية. فردت الصهيونية، صاحبة إمبراطوريات الإعلام، بالإطاحة بأولئك الإعلاميين وأنهت حياتهم المهنية مستخدمة الدين (اللاسامية) والسياسة عبر وسائل الإعلام.
وبدورها استخدمت المؤسسة الإسلامية الإعلام لنشر أفكارها منذ بداياتها، ففي مصر عملت طويلا لتصل إلى سدة الحكم، وكان لها رجالها في السياسة استخدموا الإعلام لنشر أفكارها من على منابر البرلمانات. وقد ظل بعض الإعلاميين على مسافة من الدين والسياسة، وفقا للمصلحة أو خوفا من السياط، ثم تقلبوا فصفقوا للإطاحة بمبارك، فرحبوا بمحمد مرسي ثم جلدوه، اانتهوا إلى تأليه عبد الفتاح السيسي.
ومن الإعلام ما هو في خدمة حركات سياسية لم تنفصل عن الدين أبدا، وإن حاولت، كالعلمانية والناصرية وغيرهما، التي استخدمت الإعلام لمحاصرة ونبذ الحركات الدينية غالبا، بينما كان لها رجال الدين خاصتها الذين وفرت لهم استخدام الإعلام لتبرير سياساتها، فيما بقي الإعلام رهينة الطرفين. إن أجندة الدول قائمة على استخدام الإعلام لنشر خطاب ديني خادم للسياسة، وهنا يظهر جلياً تحالف السلطات الثلاث لأداء مهمة واحدة، هي استمرار الدولة. وتدخل قوة المال، الذي تتحكم به السياسة غالبا، فيُستخدم لصناعة إعلام يخدم الدولة مقابل حماية مصالح الاقتصاديين، فيُقدّم ما يلزم للدولة من مبررات تكفل اتباع السلطة الدينية لنظيرتها السياسية وفقا للمصلحة، فترى الكل يعمل لصالح السلطة السياسية في النهاية. إن سرعة التحولات بين رجال السلطات الثلاث، وفقا للضرورة، بدت جلية في الآونة الأخيرة، فترى رجال الدين إعلاميين، والإعلاميين نخباً سياسية، ورجال السياسة قيـــادات رأي عام، أو لابسي عمائم، والكل يدور في فلك متنــــاغم منادٍ باتباع رأي واحد بوضوح فاضح، ما ترك الجمهور حبيس الرأي الواحد الذي تنقله أبواق بين السلطات الثلاث، على قاعدة أن من يستطيع التحكم في المال هو من يمتلك تحريك دولاب المتغيرات، ما يوجز الحديث عن كيفية بناء الديكتاتوريات الناعمة، التي تعرض ذاتها على أنها ديمقراطيات عبر مصارف الاعلام.
٭ صحافي فلسطيني
حسان عواد
بسم الله الرحمن الرحيم (( وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ (227) )) من سورة الشعراء
الشعراء بالآيات الكريمة هذه يتشابهون مع الاعلام الانقلابي المتقلب
ولا حول ولا قوة الا بالله
هذ المنطق في تحليل الاعلام العربي مفقود فعلا. لانه وللاسف الكثير من المؤسسات الاعلامية تعمل لخدمة جهة ما، والكثير منها ايضا تم تاسيسها لخدمة جهات معينة.
هكدا ادن يتم بناء ديكتاتوريات ناعمة ،مغلفة بالديمقراطية ،عبر خلق توافق بين مصالح سلط الثالوث الاعلامي و الديني و السياسي، و ترى الكل يخدم لصالح السلطة السياسية،على حساب تعاسة الشعوب,,,اتمنى من اصداقائي عبر الفايسبوك قراءة هذا المقال الجد الجميل,,,