المُتَعَتِه والجارية: أبو العتاهية رائد الشعر الشعبي والمتناقضات

كان العصر العباسي من أفضل العصور التي بلغ فيها ازدهار المشرق عنان السماء، خاصة في العصر الذهبي (785-847)؛ حيث الفتوحات المتوالية التي جعلت الدول العربية تنفتح على ثقافات وآداب شعوب أخرى من أقصى المشارق ومغاربها، ومعها تراكمت الأموال في خزائن الدولة، ونهل الشعب من ذاك الازدهار، فأصبحت لكل شخص فرصة للتقدم والرقي؛ فقد كانت الموهبة تفتح السبل أمام أي فرد مهما كان أصله أو انتماءاته العصبية أو المذهبية أو توجهاته الفكرية، خاصة حين تكون الموهبة أدبية. فقد كانت الدولة العباسية تتخذ من رجال الأدب القوى الناعمة التي تخمد تأجج الثورات وانقلابات العصبيات في دولة مترامية الأطراف ومتعددة الأجناس. وعلى هذا، كان يعمد البلاط إلى ضمّ بطانة من الشعراء والأدباء من كل الأطياف والأجناس، لتكون مثالا لامعا لكل مواطني الدولة تشجِّع على الاقتداء بهم.
ومع هذا التنوُّع والتلوُّن كان للأدب نصيب في التطوُّر.
وتماما كما يحدث الآن، يحاول الأدباء الخروج من غياهب مخاطبة العامة إلى محاولة مستميتة للوصول بأدبهم لجميع أطياف الشعب. ومن أبرز الشخصيات الأدبية اللامعة التي كانت تجسيدا حيا لسياسة العصر العباسي الشاعر اللامع أبو العتاهية (748-828م) الذي نقلته موهبته الشعرية من أسافل الشعب لبلاط الخليفة العباسي.
فقد كان إسماعيل بن القاسم بن سُوَيد بن كَيْسان، أبو إسحاق العَنَزِي الكوفي، الذي عرف في ما بعد بلقب «أبو العتاهية» متواضع الأصل، ولد في قرية عين التمر بالقرب من الكوفة، وأصله من مسيحيي عين التمر من النبط الساميين الذين سكنوا الأنبار في العراق.

وفي صغره، انتقل مع أبيه إلى الكوفة، حيث الأدباء والمحدِّثين والزهَّاد المتعبدين، وفيها عاصر العديد من الشعراء والعلماء والشخصيات اللامعة في مجال الأدب. ونشأة أبو القاسم شديدة التواضع؛ فكان أهله يصنعون الفخَّار، وكان هو يشاركهم في صنعها وبيعها حاملا إياها على ظهره في أرجاء مدينة الكوفة، التي اتسعت وازدهرت وظهرت فيها جماعات ذات طبع ماجن خليع، ينظمون الشعر بينما يتنقَّلون بين مجالس اللهو والفسق، ويوغلون في المفاسد من الأمور، وأطلقوا على أنفسهم لقب «الظُرف» ومنهم الشاعر المشهور بمجونه وخلاعته مطيع بن إياس، وهو من باكورة الشعراء المحدثين في العصر العباسي. وكانت شخصية أبو العتاهية منذ الصغر تمتاز بالتناقض الشديد؛ فعلى الرغم من بساطة أصله ونشأته وعمله في الفخَّار، لكنه كان محبّا للعلم والأدب.

أبو العتاهية رائد المجون والخلاعة والزهد، وقصيدة النثر دليل على حرية الفكر والتعبير التي سادت في الدولة العبَّاسية، ودليل على كونها دولة الفرص المتساوية للجميع دون تفرقة.

وفي ذلك المنحى أيضا تناقضت شخصيته؛ فكان يقصد مجالس العلم وأهل الزهد، وجانس «الظُرف» وانغمس في ملذّاتهم ومفاسدهم ومجونهم، ومعهم تعلَّم نظم الشعر والتفنن فيه. وعلى الرغم من صلف طبيعة عمله ومساعدته لأهله، لكنه كان يكره العمل وميَّالا للتبطُّل. وقيل إن صيته ذاع لأول مرَّة كشاعر فذّ عندما مرَّ بجماعة من شباب الشعراء يتباهون بإلقاء القصائد وهو في طريقه لبيع الجرار. فوضع حمولته من على ظهره، وتراهن معهم أن يكملوا بيتا شعريا. ولمَّا عجزوا، أكمل لهم البيت وأخذ ينشد القصيدة. فاشتهر بكونه بائعا للجرار له القدرة على إلقاء الشعر ونظمه. ومن ثمَّ، أعجب به أهل الكوفة واهتموا بروايته. وأصبح طلَّاب الأدب والشعر يقصدونه ويكتبون أشعاره على ما تكسَّر من جراره الخزفية.
ولما ذاع صيته، انتقل إلى بغداد في حقبة الخليفة المهدي، وأخذ يمتدحه، لكن للأسف أشعاره لم تصل إلى مسامع الخليفة. وذاع خبره للخليفة فقط عندما اعترض الجارية عُتبة، وهي وصيفة لزوجة المهديّ، التي أمرت حينها من معها أن يبعدوه عن طريقها. ومنذ ذاك الحين، استدعاه الخليفة وسمع أشعاره. وظلَّ أبو العتاهية يمتدحه حتى صار من أقطاب شعراء مجلس الخليفة، وفضّله على الكثير من شعراء هذا العصر. وقد اشتهر عن أبي العتاهية حبّه الشديد للجارية عُتْبَة، وصاغ لها العديد من قصائد الغزل الرقيق. وقيل إنّ المهدي هو السبب في تسميته بـ«أبي العتاهية» عندما قال له: «أنت إنسان متحذلق مُعْته» فلازمه اللقب. وقيل إن الرجل المتحذلق يقال عليه «عتاهية» دون التعريف بالألف واللام. ولكون «أبو العتاهية» مولعا بالشهرة فقد أضاف التعريف إلى اللقب وزاد عليه كلمة «أبو». ووردَّ أيضا في المعجم أن معنى «تعته في الشيء» هي الولع به والحرص عليه. وورد أيضا أنها مصدر لكلمة «عُته» بمعني الضلال، أو الرعونة والحمق، أو المغالاة لدرجة المُجون.

وكان أبو العتاهية فصيح اللسان.. حسن البيان، لدرجة أنه صار من طبقة بشَّار بن برد وأبو نوَّاس. وقد برع في أشعار المديح والغزل والمجون، في الدرجة نفسها التي برع فيها في أشعار الزهد. وكان فيلسوفا في غزله، وكذلك في قصائد الزهد التي تمسَّك فيها بعروة الدين، حين يذكَّر سامعيه بالموت ويجسده بأسلوب نابض، لدرجة أنه أبكى الخليفة هارون الرشيد عدَّة مرات من عمق قصائده. فالتناقض في أسلوب حياته جعله يعيش حياة مجون وفساد، وصل به حدَّ أن يُطلق عليه «مخنَّث أهل بغداد» وتركها لحياة الورع والزهد والتقوى فصارت له قصائد فلسفية تُحقر من ملذات الدنيا الفانية وتُرغب في التقرب إلى الله. أما أسلوب أشعاره، فتميّزت بسهولة رائعة جعلت ألفاظها سهلة خفيفة على لسان العامة، ويعجب بها الخاصة. وكان شعره قريبا إلى النثر. ومن ثمَّ، يمكن احتسابه رائدا لقصيدة النثر في مهدها في المشرق. أما عن الأوزان، فلم يقيِّد نفسه بها، بل كان يخلط بينها في القصيدة الواحدة، والعديد من أبياته لم يكن لها وزن، فقد احتقر الأوزان، وكان يردد متفاخرا بأنه هو الوزن بذاته.
وذاك المجنون في الفخر هو ذاته من جعله يرتكب الحماقات ليجعل عُتْبَة تعجب به. فكان تارة يتنكَّر في زي راهب راغبا في الإسلام على يديها، ليطبع قبلة على يدها بعد النطق بالشهادة. وتارة أخرى يتنكَّر في زي عبد عجوز؛ لتشتريه عُتْبَة فتعتقه. فيقبِّل أيضا يديها. وفي كل مرة، كان يُكشف عن هويته بعد القُبلة. وعتبة ذاتها هي من دفعه لترك حياة المجون والعيش كمتنسِّك زاهد بعد رفضها الزواج منه بناء على أمر من الخليفة.
أبو العتاهية رائد المجون والخلاعة والزهد، وقصيدة النثر دليل على حرية الفكر والتعبير التي سادت في الدولة العبَّاسية، ودليل على كونها دولة الفرص المتساوية للجميع دون تفرقة. كانت أشعاره ذات صبغة شعبية، لكنها لاقت استحسان جميع الطبقات بمن فيهم الخليفة. فعندما يصير الأمان وحريَّة التعبير والفكر ميثاق الدولة، تتحوَّل حينها إلى أرض خصبة تتفتُّق فيها المواهب.

أكاديمية مصرية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سعيد.و:

    “لدرجة أنه أبكى الخليفة هارون الرشيد عدَّة مرات من عمق قصائده” شيئ من هذا يحدث معي كلما انغمست في اشعاره. ما علمته عنه الآن فقط من مقالك أستاذة ان نسبه يعود الى اسرة مسيحية ، و انه كان ماجنا في حياته و في شعره من قبل، فتعجبت كيف يصدر عن مثله شعر بهذا الزهد و هذا التقوى أن لم تكن له توبة اصابته في الجوهر و العمق .. يظل شاعري الأغلى و الافضل.
    شكرا لك .

  2. يقول محمد قذيفه:

    في زمننا غابت المواهب ونجمدت العواطف ، وتكلست العبقريه فما السبب ؟

  3. يقول علي:

    مقال جميل.بوركت أستاذة

  4. يقول حياة:

    مالدليل على انه كان ماجنا في حياته وشعره؟!
    هل كتب في الخمريات والغزل الفاحش؟

اشترك في قائمتنا البريدية