إسطنبول: ألقى مقتل الفتى الفرنسي من أصول جزائرية نائل مرزوقي (17 عاماً) بمزيد من التوتر على العلاقات المتأرجحة بين باريس والجزائر، ما من شأنه دحرجة زيارة الرئيس عبد المجيد تبون إلى فرنسا إلى ما بعد يوليو/تموز الجاري، بعد أن أُجِّلت أكثر من مرة.
فالموقف الجزائري الرسمي لم يلعب دور المراقب عن بُعد، كما في السابق، بل فضّل أن يعبّر عن موقفه بصراحة غير معتادة دبلوماسياً، ما يرجّح استمرار حالة الفتور في العلاقات، رغم محاولات احتواء مختلف الأزمات بين الجانبين.
أصدر الرئيس تبون مرسوماً رئاسياً أعاد بموجبه مقطعاً محذوفاً من النشيد الوطني، يتضمن وعيداً لباريس (يا فرنسا إن ذا يوم الحساب..)، ما أثار استياء وزيرة الخارجية الفرنسية ومسؤولين آخرين.
عندما زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الجزائر، في الصيف الماضي، كان الاعتقاد السائد أن الأزمة الدبلوماسية بين البلدين في طريقها نحو الانفراج، خاصة بعد فوزه بولاية رئاسية ثانية وأخيرة، وتخلّصه نسبياً من ضغط اليمين المتطرف، ما ساعد على إنهاء أزمة التأشيرات، في ديسمبر/كانون الأول 2022.
زيارة ماكرون للجزائر، في أغسطس/آب الماضي، حققت عدة اختراقات لأزمات شائكة، ولو بشكل سطحي أو مؤجل.
على غرار الاتفاق على تشكيل لجنة مشتركة لمؤرخين لدراسة الحقبة الاستعمارية الفرنسية للجزائر (1830-1962)، ما جنّب ماكرون حرج تقديم اعتذار تاريخي للجزائر، لكن اللجنة لم تبدأ عملها إلا بعد ثمانية أشهر من الإعلان عنها، في محاولة لكتابة التاريخ المشترك للبلدين.
كما تم عقد أول اجتماع أمني وعسكري بين كبار القادة في البلدين، والتفاوض بشأن زيادة الصادرات الجزائرية من الغاز إلى فرنسا بنسبة 50 بالمئة.
والأهم من ذلك أنه تم الاتفاق على زيارة تاريخية للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، إلى فرنسا، ستكون الأولى له منذ انتخابه في 2019.
غير أنه، باستثناء ملفي التأشيرات واللجنة المشتركة للمؤرخين، لم يتم تحقيق أي تقدم فعلي في الملفات الأخرى، بل توجهت الأمور نحو التصعيد.
ففي فبراير/شباط الماضي، استدعت الجزائر سفيرها في باريس “للتشاور”، احتجاجاً على “تهريب” ناشطة جزائرية ممنوعة من السفر إلى فرنسا عبر تونس.
ورغم إعادة الجزائر سفيرها فيما بعد، إلا أن العلاقات بين البلدين عادت للتوتر، تجلّى ذلك في تأجيل زيارة تبون إلى باريس من مايو/أيار إلى يونيو/حزيران، ثم طُوي الحديث عنها رسمياً، رغم أنه كان منتظراً أن تجري قبل زيارة موسكو، أو بعدها بأيام قليلة، لتعكس توازن الجزائر وحيادها في الأزمة بين روسيا والغرب بشأن أوكرانيا.
وأثارت أطراف من اليمين الفرنسي ملف إعادة النظر في قانون 1968، الذي يمنح الجزائريين امتيازات استثنائية في السفر والإقامة والعمل وجمع الشمل بفرنسا، لكن الحكومة الفرنسية لم تتبن هذه المطالب وأشارت إلى أنه تمت مراجعة هذا القانون أكثر من مرة.
والأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل أصدر الرئيس تبون مرسوماً رئاسياً أعاد بموجبه مقطعاً محذوفاً من النشيد الوطني، يتضمن وعيداً لباريس (يا فرنسا قد مضى وقت العتاب، وطويناه مثلما يُطوى الكتاب، يا فرنسا إن ذا يوم الحساب فاستعدي، وخذي منا الجواب)، ما أثار استياء وزيرة الخارجية الفرنسية كاثرين كولونا، وكان محل انتقاد من نائبة في البرلمان الفرنسي أيضاً.
واعتبرت أوساط جزائرية الأمر تدخلاً في الشؤون الداخلية، وانتقده وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف.
بعد مقتل نائل أصدرت الخارجية الجزائرية بياناً استعملت فيه مصطلح “وحشي”، الذي طالما كان مرتبطاً في اللاوعي الجزائري بجرائم الاستعمار الفرنسي.
لم تعتد الدبلوماسية الجزائرية أن تعلق على احتجاجات الضواحي الفرنسيةk التي تقطنها فئات مهمشة من المهاجرين، خاصة الجزائريين منهم، لكن بعد مقتل الفتى الفرنسي نائل مرزوقي، ذي الأصول الجزائرية، برصاص شرطي فرنسي بسبب مخالفة مرورية، كانت ردة الفعل الجزائرية مختلفة هذه المرة.
إذ بعد ثلاثة أيام من مقتل القاصر نائل (17 عاماً) أصدرت الخارجية الجزائرية بياناً، في 29 يونيو/حزيران المنصرم، استعملت فيه مصطلح “وحشي”، الذي طالما كان مرتبطاً في اللاوعي الجزائري بجرائم الاستعمار الفرنسي.
وأفاد البيان أن الجزائر “علمت بصدمة واستياء بنبأ وفاة الشاب نائل، بشكل وحشي ومأساوي، والظروف المثيرة للقلق بشكل لافت، التي أحاطت بحادثة الوفاة”.
وبعدما قدمت “خالص التعازي لأسرة الفقيد، التي نؤكد لها أن الجميع في بلدنا يشاطرها حزنها وألمها”، شددت الخارجية الجزائرية على ثقتها في “قيام الحكومة الفرنسية بواجبها في الحماية بشكل كامل بحسب حرصها على الهدوء والأمن اللذين يجب أن يتمتع بهما مواطنونا في بلد الاستقبال الذي يقيمون به”.
وفي هذا البيان اعتراف بأن نائل مواطن جزائري، رغم حمله للجنسية الفرنسية، وتذكير باريس بواجبها القانوني والإنساني والأخلاقي بحماية المواطنين الجزائريين.
ورغم أن لغة البيان كانت صارمة، وابتعدت قليلاً عن اللهجة الدبلوماسية المعتادة، إلا أن انتظار الخارجية الجزائرية ثلاثة أيام لإصدار هذا البيان، ينم عن أن مصطلحاته كانت منتقاة بدقة، وتعكس سياسة جديدة في التعامل مع “الاعتداءات” التي تطال أفراد الجالية الجزائرية في فرنسا بين الفينة والأخرى، في ظل تصاعد خطاب اليمين المتطرف ضد المهاجرين والمسلمين منهم بشكل خاص.
بعد هذا البيان توالت التنديدات من أحزاب جزائرية ضد جريمة مقتل نائل، التي أشعلت احتجاجات في العديد من المدن الفرنسية تخللتها أعمال شغب وعنف واعتقالات بالمئات.
لكن بيان الخارجية الجزائرية لم يمر مرور الكرام في فرنسا، رغم صمت الإليزيه (الرئاسة الفرنسية)، حيث تولى اليمين المتطرف الهجوم على الجزائر، بل وحاولت وسائل إعلام فرنسية اتهامها بتسييس قضية نائل.
إذ اعتبر اليميني المتطرف إريك زمور (يهودي ذو أصول جزائرية) أن ماكرون أصبح يتلقى الإهانات من الجزائر.
ويرى زمور أن إصدار الخارجية الجزائرية موقفاً بخصوص نائل، يشير إلى أنها تعتبر المحتجين مواطنين تابعين لها، معتبراً أن الضواحي الفرنسية صارت جيوباً أجنبية داخل البلاد.
لا شك أن مقتل نائل، نكأ الجرح الغائر في العلاقات بين البلدين، وأصبحت زيارة الرئيس تبون إلى باريس أبعد ما يكون، خاصة في يوليو/تموز الجاري، الذي يمثل ذكرى استقلال الجزائر، وأيضاً احتلال فرنسا للعاصمة الجزائرية.
يرى زمور أن إصدار الخارجية الجزائرية موقفاً بخصوص نائل يشير إلى أنها تعتبر المحتجين مواطنين تابعين لها، معتبراً أن الضواحي الفرنسية صارت جيوباً أجنبية داخل البلاد.
وتبون، الذي تنتهي ولايته الرئاسية بعد أقل من عام ونصف، ليس من مصلحته الذهاب بعيداً في علاقاته مع باريس، إذا أراد الترشح لولاية ثانية، بالنظر لعدم تقديم تنازلات جدية سواء في ملف الذاكرة (الاعتذار والتعويض)، أو الجانب الاقتصادي (ضخ استثمارات في القطاعات الصناعية والتكنولوجية) أو الدبلوماسي (دعم حقيقي للحل الأممي الخاص بإقليم الصحراء)، والأمني (تسليم الجزائريين المطلوبين أمنياً).
من الجانب الفرنسي، الاحتجاجات التي اتسمت بالعنف في العديد من مدن البلاد، تتيح للأحزاب اليمينية تشديد خطابها المتطرف، والمطالبة مجدداً بإعادة النظر في اتفاقية 1968 بل وحتى إلغائها.
غير أن ماكرون يبدو أكثر تحرراً من الضغوط الانتخابية، مقارنةً بتبون، خاصة بعد فوزه العام الماضي بولاية رئاسية ثانية وأخيرة، لكنه قد يرضخ لبعض ضغوط أحزاب اليمين، خاصة وأن حكومته لا تحظى بأغلبية مريحة في البرلمان.
وعدم زيارة تبون لباريس، يعني فشلاً لماكرون، خاصة أن الأول زار موسكو في ذروة الأزمة مع الغرب، ما قد يدفعه للتصعيد، ولعب ورقة التأشيرة مجدداً، رغم أنه يدرك أن أجنحة داخل الدولة العميقة في فرنسا ترفض أي تقارب مع الجزائر يحمل معه تنازلات، خاصة في ملف الذاكرة.
وهذا الوضع السياسي المتأزم من شأنه أن ينعكس سلباً على عمل لجنة المؤرخين المشتركة، التي قد ينهار عملها إذا ما خرجت بنتائج قد تنسف المبادئ المؤسسة للرؤية التاريخية للاستعمار الفرنسي بالجزائر.
(الأناضول)
حتى بعد مرور 61 على تحرر الجزائر من الاستدمار الفرنسي العنصري البغيض لا تزال فرنسا الوجه الاستعماري القبيح المتجدد تقتل أطفال الجزائر يا حائر ☹️☝️🇩🇿✌️