اللغة السياسية هي لغة إدارة الشأن العام وتدبير الإختلاف وتسيير نظام الحكم، كما أن اللغة المدنية هي لغة تعكس ثقافة المدينة الحديثة بكل أجوائها وعبقها وروحها، يشعر فيها المواطن بالانتماء إليها انتماء وجودي، تحدد هويته في نهاية المطاف، ولا يمكنه الاستغناء عنها، حتى ولو كان بعيدا عنها.
لا ريب أن اللغة، أي لغة في العالم، على صلة متينة بالسياسة كفكر وممارسة، عندما تعني إدارة الحكم من قبل السلطة الشرعية، ونقد الحكم من قبل المعارضة، تفاديا لاحتكار معاني الكلمات ودلالتها في رحم السلطة الحاكمة فقط. فكلَّما كان نظام الحكم/ السلطة/ الدولة العربية على قدر كبير من الفعلية والحَكَامَة (الحكم الراشد)، كلما زادت إمكانية استخدام اللغة العربية في قضايا حقيقية ومصيرية تساعد على تقليص الأمية السياسية واحترام أكثر للمدينة كفضاء عام يستدعي لغة المال العام التي تتحدث بخطاب غير استحواذي ولا احتكاري على اعتبار أن المال العام هو ملك الجميع كما يقال.. لكن ما ينقصنا كعرب في هذا الجانب هو امتلاك ناصية اللغة التي تعكس الوعي بقيمة وأهمية المجال العام والمؤسسة العامة كأفضل سبيل لاستكمال الهوية العربية الناقصة.
اللغة العربية تحتاج إلى اللغة السياسية الحديثة إن على صعيد النظرية السياسية أو على صعيد التجربة والممارسة السياسية أيضا لقوة الصلة والعلاقة البينية التي صارت عليها المنظومات الفكرية والعلمية في عالمنا الفائق. وعليه فان التحدي الكبير الذي يواجه العرب ليس ما آلت إليها اللغة العربية كلغة تواصل وقِوَام هوية، بقدر ما يتمثل هذا التحدي الخطير في قلة تبَصُّر النظام السياسي العربي في مسألة اللغة العربية وصلتها بالسياسة عندما تعني أن كل شيء سياسة وأن السياسة هي أيضا كل شيء، بمعنى ما من مجال من مجالات الحياة إلا ويحتاج إلى تدبير سياسي: السياسة الاقتصادية، السياسة الثقافية، السياسة البيئية، السياسة الاجتماعية، السياسة الدولية… فالقصور في تغطية هذه السياسة في مدلولها الواسع هو الذي ينعكس عند التحليل الأخير على اللغة ويحيلها إلى الانكماش والاضمحلال. ومن الأمثلة في التدبير الناجح للغة العربية هي اللغة المتداولة في بعض الفضائيات العربية عندما هيئت اللغة وأعدت برسم التداول العربي القومي ومن أجل كل العرب في سائر أنحاء العالم، فوظفت اللغة ليس لترديد مناقب أنظمة الحكم العربية أو لشرح البيانات والقرارات التي تصدر عنها بلغة متخشبة ومترهلة من فرط تداولها حتى النفاد الأخير. فقد فُتِح المجال للّغة العربية للتداول العام، يخاطب بها الشعب العربي كوحدة قومية تزيد من متانة الهوية العربية التي تفلت من أنظمة الحكم القُطْرية والاحتكارية. ولعّل النجاح البارز في تداول اللغة العربية في الفضائيات هو أنها استدعت سياسة جديدة: زيادة الاهتمام الدولي بالشأن العربي ولو بإحداث قنوات فضائية تتحدث بلغات عالمية أخرى.
إن التعامل مع الوضع السياسي والمدني على أساس أنه جزء من الهوية أو أنه يساعد على ذلك، يوفر فرصا أكثر لكافة أفراد الشعب لكي تعبر وتبدع وتخلق وتصنع ليس فقط في مجال الأدب والفكر والفن والرياضة والتجارة، بل تساعد على بلورة وتداول لغة عربية واضحة بين أفراد الشعب العربي في ما بينه، وبينه وبقية العالم، لأن اللغة العربية المتداولة في هذه الحالة تستبطن كافة القضايا العالمية والإنسانية، يظهر فيها العرب قدرة على إبداء وجهات نظرهم. ولعلنا لا نجانب الحقيقة إذا قلنا أن أقوى بلدان العالم هي تلك التي تنتج المصطلح السياسي والمدني لما يوفرها نظامها الحاكم من ديمقراطية وما توفِّره مدنها من فضاءات ومجالات عامة توحي بالراحة والاطمئنان يشعر أفرادها بهويتهم الكاملة. وعلى خلاف ذلك، نجد حالة التسلط والاستبداد وضيق المجال السياسي في العالم العربي أثره البالغ في محاصرة اللغة العربية عن التعبير عن القضايا والتحديات الحقيقية التي تواجه فعلا العربي في وجودهم، كما أن تورم المدن العربية على نحو عشوائي كامتداد لضواحي الصفيح، أفرز حالة من القنوط والعَيَاء والفتور في الانتماء إلى الحياة المدنية العربية الحديثة. فمعروف أن المدن العربية لا توحي كثيرا لأدباء العالم بالقدوم إليها والكتابة من وحي أجوائها وعبيرها، بل على العكس تماما نجد أن المبدع والمفكر والعالم العربي هو الذي يرحل إلى المدن الأوروبية والأمريكية من أجل استكمال الهوية الناقصة لديه، على ما شهدته مدن باريس، لندن، روما، برلين، أمستردام، واشنطن، نيويورك، أوطاوا،ناهيك عن عشرات المدن الأخرى الهادئة والمريحة.
وجود العرب معلق على وجود لغتهم. وسياق العولمة والعصر الفائق يتيح أكثر من فرصة للاستثمار في اللغة، ومن ثم امتلاك واستكمال الهوية العربية. ونأخذ على سبيل المثال مدن العربية السعودية، التي يتدفق إليها الملايين من المسلمين في العالم بمناسبة مواسم الحج والعمرة، يرددون أدعية، يؤدون مناسك وشعائر دينية بلغة عربية ولغات أخرى مختلفة تساعد كثيرا على التواصل وإغناء اللغة العربية بتوفير أجواء موحية لمناطقها التاريخية وإعادة تصميم بيئات وبنايات من الوحي العمران الإسلامي الذي لا يتوقف عن الإبداع الفني. واليوم هناك، إمكانية الاستثمار في اللغة العربية في بلدان الخليج العربي، التي شهدت بعض مدنها طفرة نوعية هائلة من التقدم والنماء مثل دبي، أبو ظبي، الرياض، الدوحة.. التي تستقطب المال والأعمال من مختلف القارات في العالم، الأمر الذي يتيح تداول اللغة العربية من قبل السياح، رجال الأعمال والتجارة والمتعاملين الاقتصاديين، والشركات الدولية وفي المؤتمرات السياسية والاقتصادية والفكرية التي تقام فيها بشكل مستمر والتي يجب أن تستمر إلى حد أن تصير ثقافة.
٭ كاتب وباحث جزائري
نورالدين ثنيو
مقال حريص على مستقبل الهويّة العربية…وهنا القول الملموس لدعم العربية على مستوى أقطارالوطن العربيّ حققته قناة الجزيرة الفضائية..
بتمييز.فهي تستحق الشكروالتقديروالتكريّم.أما الحجّ ؛ فحبذا لوأصبح الحجّ ؛ موسماً ثقافياً كذلك لنشراللغة العربية على ملايين المسلمين سنوياً.وهوتجمّع نادراليوم في كلّ مناسبات العالم الآخر.ونشيرإلى أنّ ( الدوحة ) الأفضل خليجياً لدعم اللغة العربية نظرية وتطبيقاً الآن ؛ للحفاظ على الهوية القومية والتاريخية للأمة.فلقد ( عالجوا القضية ) من جذورها باصدارجملة قوانين لازمة التنفيذ والمتابعة ثمّ بادروا إلى الجيل الجديد باصدارمجلة للفتيان متخصصة في الثقافة اللغوية العربية تسمّى مجلة ( الضّاد ) ذات مستوى فنيّ عالي وكذلك تشويقي للتفاعل مع لغتنا المباركة..وأرى أنّ تجربة تعليم اللغة الألمانية بواسطة سلسلة معاهد ( غوته ) تستحق الالتفات والاستفادة من تجربتها الرصينة ؛ لتعزيزالعربية تعلّماً ودراسة وثقافة.شكراً للدكتورنورالدّين ثنيوعلى هذه النافذة البصيرة.وأتفق مع حضرتك جداً إنّ : ( وجود العرب معلّق على وجود لغتهم ).لهذا يتمّ محاصرتها بفنون من الأساليب النفسية والعملية العميقة ؛ رغم أنها إحدى لغات العالم الست في الأمم المتحدة.ومن أجل تعزيزاللغة السياسية والمدنية عربياً ؛ وإنتاج المصطلح الحديث الأصيل ؛ أقترح بين يديك الكريمة الالتفات إلى أعظم وأهمّ وأدقّ معجم لغويّ ؛ ليس في العربية حسب بل في جميع لغات العالم الحيّة ؛ وأعني به معجم لسان العرب للعلامة ابن منظورالذي يحتوي على ثمانين ألف مفردة ذات تأصيل منفتح.فيما أكبرمعجم لغويّ آخر؛ وهوالمعجم البريطاني يحتوي فقط على أربعين ألف مفردة.ولمعاشرتي لمعجم لسان العرب ؛ رغم أنّ تخصصي ليست اللغة العربية ؛ وجدت أنّ هناك زهاء عشرين ألف مفردة ( كاللؤلؤ المنثور) في معاجم اللغة العربية الأخرى..فلويصارإلى (غربلتها) وإلحاقها بذلك المعجم الكبير؛ كما هوأصلاً لسان العرب مكوّن من خمسة معاجم مدّمجة ؛ ثمّ وحدّها ابن منظوروأضاف عليها…لأصبح للغة العربية معجماً ثرياً من الدرر؛ يحتوى زهاء مائة ألف مفردة / درة ؛ وهذا لعمري ( قلادة لغوية ) ثمينة جداً ؛ لتوحيد الرؤية والمرجعية التاريخية الخلاقة للحفاظ على لغة القرآن وروح العصرسويّة : {وفوق كلّ ذي علم عليم}(يوسف 76).