تعرفت على المفكر اللبناني الأستاذ ‘رمضان لاوند’ الذي كان يعمل رئيسا للقسم الثقافي في إذاعة الكويت ، وكنت من وقت لآخر أبدأ معه حوارات فكرية تطورت إلى نحو عشر حلقات مدة كل منها نصف ساعة أذيعت في إذاعة الكويت كما أذيع مثلها في إذاعة أمدرمان ، وذات يوم دخلت عليه في مكتبه وكان في مزاج غير عادي حاولت أن أخرجه منه بفتح موضوع للنقاش ، ولكنه قال لي أرجو ألا تثير معي مثل هذه الموضوعات مرة أخرى ، فقلت له لم؟
فقال أنت تقرأ الكتب والمجلات وتملأ رأسك بالموضوعات ثم تأتي لتناقش بها ، فقلت له وما الضير في ذلك ألا يناقش الإنسان بثقافته وما يكتسبه من معلومات ؟ فقال لي أنا لا أومن بذلك ، لأني لا أحب النقاشات التي تفتقر إلى الرؤية، فقلت له وماذا تعني بذلك؟فقال أنظر إلى الفيلسوف اليوناني ‘أفلاطون’ ، ستجد أنه وضع الفلاسفة في قمة الهرم الفكري، فقلت له وما دلالة ذلك؟ فقال الفيلسوف لا يشحن عقله بالمعلومات بل هو يفكر في الكون وما حوله ثم يخرج بفكرة واحدة تكون ذات قيمة كبيرة ، وتلك هي الرؤية التي يتعامل بها الإنسان في حياته ، يزيد عليها أو ينقصها بحسب تفكيره وخبراته ، ورأيت أن ما قاله الأستاذ ‘رمضان لاوند ‘ عميق ويحتاج إلى التأمل حين التعامل مع قضايا الفكر ،
وفي تلك المرحلة كان الصراع دائرا بين المعسكرين الشرقي والغربي، وكانت كثير من المفاهيم الشرقية تأخذ طريقها إلى العقول دون تأملها بصورة سليمة ، ومن تلك المفاهيم الاشتراكية والتوزيع العادل للثروات دون التفكير في جدوى ذلك ، وأذكر أنني سافرت إلى بريطانيا حيث بدأت مرحلة طويلة من الهجرة ، وأذكر أن أول ما لفت نظري في بريطانيا هو سكن معظم المواطنين في منازلهم الخاصة ، وسألت بعضهم كيف تمكنوا من الحصول على المال الذي اشتروا به المساكن ، فقالوا لم يكن معهم مال ، ولكنهم توجهوا إلى المصارف من أجل الاقتراض من خلال نظام الرهن العقاري، الذي يمكن المواطنين من شراء منازلهم بضمان المنازل ذاتها ، وعند ذلك سألت من أين تأتي المصارف في بريطانيا بالأموال ؟ فعلمت أنها أموال الأثرياء المودعة في المصارف والتي تدخل في الدورة الاقتصادية بحيث يستفيد منها كل فرد ، وعند ذلك قلت لنفسي إذن ما يقوله اليساريون عن استغلال الأغنياء للفقراء ليس صحيحا ، لأن الأغنياء في بريطانيا يضعون أموالهم في المصارف حيث يستفيد منها كل شخص ، وهم بالتالي لا يهربون الأموال إلى خارج البلاد كما يفعل أثرياؤنا، وبالتالي يخرجون الأموال من الدورة الاقتصادية ، ووفق هذا المفهوم يظل حتى الذي يكتسب أمواله بطريقة غير مشروعة ويبقيها داخل النظام الاقتصادي غير ضار بالمجتمع لأن أمواله تظل في خدمة المجتمع وإن لم تكن في يد الحكومة.
وجعلني ذلك أبحث في كل الأفكار التي تحتوي على رؤية ذات قيمة بالنسبة للمجتمع ، ووقع بحثي في أول الأمر على كتاب ذي قيمة كبيرة وهو كتاب تعليم المقهورين ‘لباولو فرايري’ الذي نقلته إلى العربية، ودهشت من الصدى الذي أحدثته هذه الترجمة في شبكة الانترنت ، وكانت فكرة الكتاب تركز على التفريق بين التعليم المصرفي الذي نحشو به عقول أبنائنا والتعليم الحواري الذي هو الأسلوب الصحيح للتعلم ، ذلك أن التعليم المصرفي يشبه إيداع صاحب المال لأمواله في المصرف دون أن يعلم مصيرها ، بينما التعليم الحواري هو الأسلوب الوحيد للتعلم لأنه يثير في الإنسان رغبة التساؤل، والإجابة التي يحصل عليها من خلال هذا التساؤل هي التي تمثل التعليم الحقيقي ، أما ما نحشو به عقول التلاميذ فهو نوع من التدجين المسؤول عن كل مشاكل مجتمعاتنا في الوقت الحاضر ، وأما الكتاب الآخر الذي اهتممت به ونقلته أيضا إلى العربية فهو كتاب مجتمع بلا مدارس ‘لإيفان إليتش ‘ وهو الكتاب الذي يعتبر المدرسة داء ينبغي التخلص منه لأن أضرارها في عقول التلاميذ أكبر من منافعها بحسب رأي المؤلف.
ومع ازدياد اهتمامي بالرؤية وجدت أن المشكلات القائمة في بلادنا العربية كلها بسبب عدم تبلور الرؤية الكافية عند شعوبنا العربية ، فإذا نظرنا إلى المشكلات القائمة في سوريا أو اليمن أو مصر أو ليبيا وجدنا أنها جميعا بسبب قصور الرؤية ، ذلك أن معظم هذه المشكلات هي بسبب عدم قدرة الكثيرين على تحديد ما يريدونه حقا ، ذلك أن معظم البلاد العربية خضعت في مرحلة من مراحلها للاستعمار الأجنبي، وبصرف النظر عما نقوله عن الاستعمار فإن مفهوم الاستعمار تركز في شيء واحد وهو السلطة ، وبالتالي فعندما قامت الحركات الوطنية في العالم العربي فقد ركزت هذه الحركات على السلطة أي تحويلها من يد الحاكم الأجنبي إلى الحاكم الوطني ، وبالتالي تركز الصراع على السيطرة على السلطة وليس على بناء نظام الدولة ، وهذا هو سر الأزمة القائمة في العالم العربي ، وحتى حين نسمع البعض يتحدثون عن الديموقراطية وإنها تمثيل لإرادة الشعب فإنهم لا يتحدثون عن الديمقراطية بكونها مؤسسة متكاملة تنظم العلاقة بين السلطات القضائية والتنفيذية والسياسية والاقتصادية بل يتحدثون عنها كوسيلة تستخدمها المجموعات القبلية والطائفية والعرقية والأيديولوجية من أجل الوصول إلى السلطة، وإذا قرأنا حال العالم العربي اليوم وجدنا أنه يدور في هذا الإطار، ذلك أن الصراع الدائر في سوريا ليس صراعا بين قوى تريد أن تعمل في إطار نظام الدولة بل هو صراع بين قوى طائفية يرى كل منها أنه هو الأحق بأن يسيطر على السلطة.
وإذا نظرنا إلى الصراع الدائر في ليبيا وجدنا أنه بين قوى شاركت في إقصاء نظام العقيد ، وهي تريد نصيبها من كعكة الانتصار ، أما الصراع في مصر فهو أكثر تعقيدا لأنه صراع بين قوى عسكرية تقليدية وقوى مدنية ذات طبيعة أيديولوجية ، وكما نرى فإن الانتصار في أي بلد من هذه البلدان لن يحقق نظام الدولة الديمقراطية لأن الصراع ليس من أجل إقامة هذه الدولة بل هو صراع من أجل تحقيق النفوذ للقوى المتصارعة على حساب الآخرين وحتى على حساب المصلحة الوطنية .
, ويقودنا ذلك من جديد إلى موضوع الرؤية ، لأنه بدون رؤية صحيحة فلن تكون هناك ديمقراطية في العالم العربي ، ويجب ألا يفهم من ذلك أن مجرد وضوح الرؤية يعني التغيير ، ذلك أن العالم العربي فيه كثير من العقبات ، وأول هذه العقبات صيغ الحكم القائمة ، وهي صيغ لا تقبل التغيير والرؤية الصحيحة فالتغيير لا يعني إلغاء الأوضاع القائمة بل يعني تصحيح البنى الاجتماعية ، لأن شكل الحكم ليس هو الذي يحدد طبيعة المجتمع الديمقراطي لأننا إذا نظرنا إلى سائر الدول الديمقراطية في العالم وجدنا أنها تعمل تحت بنى سياسية مختلفة كما هو الشأن في الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانية وأستراليا وغيرها إذ في سائر هذه الدول أنظمة حكم مختلفة ولكن ذلك لم يحل دون إقامة النظم الديمقراطية، فالمهم في النظام الديمقراطي هو الخروج من نظام الحكم التسلطي إلى نظام الحكم الرشيد ، والمقصود بالحكم الرشيد هو معرفة أن الوصول إلى الحكم لا يعني التسلط على الآخرين من خلال الطائفة أو القبيلة أو الأيديولوجية أو المعتقد ، بل يعني فقط خدمة مصالح المجتمع من خلال النظام المؤسسي الذي أشرنا إليه سابقا ، ويحتاج التغيير إلى هذا الواقع تجديد رؤية الكثيرين لطبيعة العمل السياسي التي إذا تغيرت أصبح تداول العمل السياسي إجراء سلميا يتم وفق العوامل الضرورية للممارسة الديمقراطية السليمة .
‘ كاتب من السودان
حياك الله يادكتور يوسف
مقال وتحليل رائع
جزاءك الله خيرا
متي يكون المجمتع العربي في قمة الديمقرطية الحقيقة
أولا أريد أن أشكر الكاتب الكبير المحترم على تبصره العميق الى ما يحتاج اليه العالم العربي ،كما أشكره على شهامته و جرئته النابعة من غيرته ووطنيته العربية ،بحيث لم تفته الالتفاتة الواقعية لما يجب ان تكون عليه المنظومة التعليمة ،والتي تتطرق من خلالها الى ما ينبغي تعليمه للناشئة و الدي هو التعليم الحواري و ليس المصرفي ،ثم تطرق الكاتب المحترم الى مفهوم الاستعمار الدي هو شيئ واحد وهو الحكم التسلطي ،وان كل النخب السياسية العربية تركز الصراع على السلطة و انها تريد نصيبها من كعكة الانتصار وكدالك من اجل تحقيق النفود على حساب الاخرين و حتى على حساب المصلحة الوطنية، وليس من اجل اقامة دولة ديموقراطية، كما هو الشأن ببعض الدول الغربية ،كما اشكره على رسائله السياسية الدي يريد من خلالها توصيل رؤية واضحة للسياسيين العرب بقوله انه لا يمكن تحقيق ديموقراطية في العالم العربي بدون تصحيح البنى الاجتماعية باشراك جميع النخب مهما كان اختلاف تياراتهم السياسية والفكرية و انتماءاتهم الدينية و الثقافية، التي تتمكن من الخروج من الحكم التسلطي الى الحكم الرشيد ،وليس بالغاء الاوضاع القائمة ، كما اريد ان اظيف الى الكاتب المحترم ان الفكر الديكتاتوري العربي قد تكون واعي و متفهم لهده الراسائل النبيلة ،ولكنها بحكم تشبتها بثقافة التوريث و استدامة المناصب بين العائلات و اللوبيات المدنية و العسكرية ،لا يسمح باشراك كفاءات مثقفة (وربما مباركة لاننا نحن في المجتمع الاسلامي نأمن بالبركة الالاهية لا محال ) اجتماعيا و سياسيا من خارج العائلات و اللوبيات المدكورة و للاسف الشديد.
فعلا قد يكون الكاتب المحترم بلغ الرسالة بكل تفاصيلها ،تلك التي ينبغي تفعيلها من طرف المفكرون السياسيون لاخراج عالمهم العربي من الازمات السياسية و الاجتماعية المتثالية ، التي تقف في وجه تنميته الديموقراطية ،ولكن هل يخفى على الكاتب المحترم ان صناع الايديولوجية العربية خدام الديكتاتوريات العربية ، يتجاهلون و ليس يجهلون ان المناصب السياسية لا تتوارث و لا مكان لمفهوم استدامتها ،كما هو الشأن بين السياسيين في المجتمعات الغربية الديموقراطية ،مما جعل رجال السياسة العرب الانتهازيون بدورهم يتصارعون ،بل يتقاتلون على المناصب السياسية ،اد يمكن القول ان العالم العربي لا يفتقر لصيغة معقولة ينظم بها العمل السياسي كما جاء بها المفكر المحترم،بل يفتقر لرجلات وطنية لا يهما استدامة و اراثة المناصب لابنائها ،بقدر ما يهمها اقامة دولة ديموقراطية تستفيد منها اجيال المستقبل عامة ، و هل يخفى على الكاتب الكبير ان جل السياسيين و اكبر عدد من المثقفين العرب ،كونهم لم يستطيعوا التخلص من الفكر الديكاتوري الاقطاعي المتسلط ،اصبحوا يفكرون مثله بل يخدمون لصالحه ،ليبقى امثال المثقف الوطني بين مطرقة الفكر الرجعي الاقطاعي و سندان الفكرالانتهازي المتسيس .